للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما قولهم إن في هذا إخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان، فالذي "ينبغي أن يعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار، فإن هذا القول من البدع المشهورة، وقد اتفق الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان. واتفقوا أيضا على أن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته، ففي الصحيحين عنه أنه قال: ((لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) (١) " (٢).

ومعنى هذا أنه لو خرج من الإيمان، فلا يلزم أن يكون كافرا مخلدا في النار كما توهمته الوعيدية، بل يخرج منه إلى درجة أقل هي الإسلام، ومعه أصل الإيمان.

وأما قولهم: إن الحقيقة المركبة من أمور، متى ذهب بعض أجزائها انتفت تلك الحقيقة، فيقول شيخ الإسلام مجيبا عن ذلك:"والجواب عما ذكروه سهل، فإنه يسلم لهم أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت، لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء" (٣).

ويقول: "فيقال لهم: إذا زال بعض أجزاء المركب تزول الهيئة الاجتماعية الحاصلة بالتركيب، لكن لا يلزم أن يزول سائر الأجزاء.

والإيمان المؤلف من الأقوال الواجبة والأعمال الواجبة، الباطنة والظاهرة، هو المجموع الواجب الكامل، وهذه الهيئة الاجتماعية تزول بزوال بعض الأجزاء، وهذه هي المنفية في الكتاب والسنة في مثل قوله: ((لا يزني الزاني)) (١). الخ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: ١٥].

ولكن لا يلزم أن تزول سائر الأجزاء، ولا أن سائر الأجزاء الباقية لا تكون من الإيمان بعد زوال بعضه.

كما أن واجبات الحج من الحج الواجب الكامل، وإذا زالت زال هذا الكمال، ولم يزل الحج.

وكذلك الإنسان الكامل يدخل في مسماه أعضاؤه كلها، ثم لو قطعت يداه ورجلاه لم يخرج عن اسم الإنسان، وإن كان قد زال منه بعض ما يدخل في الاسم الكامل. وكذلك لفظ الشجرة، والباب، والبيت، والحائط، وغير ذلك يتناول المسمى في حال كمال أجزائه بعد ذهاب بعض أجزائه" (٤).

وقد بسط رحمه الله الجواب عن هذه الشبهة في مواضع أخرى، أهمها في كتابه الإيمان الأوسط، وهذا تلخيص ما قاله هناك:

يقول رحمه الله: "فإن الحقيقة الجامعة لأمور - سواء كانت في الأعيان أو الأعراض - إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، وسواء سميت مركبة، أو مؤلفة، أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها.

وما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، بل قد تبقى التسعة، فإذا زال أحد جزئي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر.

لكن أكثر ما يقولون: زالت الصورة المجتمعة، وزالت الهيئة الاجتماعية له، وزال الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب، كما يزول اسم العشرة والسكنجبين.

فيقال لهم: أما كون ذلك المجتمع ما بقي على تركيبه، فهذا لا ينازع فيه عاقل.

ولا يدعي عاقل أن الإيمان، أو الصلاة، أو الحج، أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور إذا زال بعضها بقي ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ... ، ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء.


(١) رواه البخاري (٧٤٧٤) , ومسلم (١٩٩) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, واللفظ لمسلم.
(٢) ((الإيمان)) (ص٢٠٩ - ٢١٠) ((الفتاوى)) (٧/ ٢٢٢ - ٢٢٣).
(٣) ((الإيمان)) (ص٣٨٦) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٠٣).
(٤) ((الفتاوى)) (١٨/ ٢٧٦ - ٢٧٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>