للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار، فلما كان التصديق لابد منه في كلا الشهادتين، وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول، ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان، وغفل عن أن الأصل الآخر لابد منه، وهو الانقياد. وإلا فقد يصدق الرسول ظاهرا وباطنا، ثم يمتنع عن الإقرار للأمر، إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى، كإبليس" (١).ومن ترك الانقياد كان مستكبرا، وصار من الكافرين، وإن كان مصدقا، فالكفر أعم من التكذيب، ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب (٢).والحاصل أن "السعادة مشروطة بشرطين: بالإيمان والعمل الصالح، بعلم نافع وعمل صالح، بكلم طيب وعمل صالح، وكلاهما مشروط بأن يكون على موافقة الرسل" (٣).وأنه لابد من التزكي بفعل المأمور وترك المحظور، فهذان لابد منهما، ومقصود الرسالة هو فعل الواجبات والمستحبات جميعا (٤).وإذ تبين ما تقدم، وأن الظاهر لابد من وجوده لصحة الباطن، وأن النجاة لا تحصل إلا بذلك، فمما يختم به هذا المقام ما نبه عليه شيخ الإسلام من أن الظاهر يكون لازما للباطن من وجه، وملزوما له من وجه، وهو دليل عليه من جهة كونه ملزوما لا من جهة كونه لازما (٥).

والمراد أن الظاهر إنما يكون لازما وملزوما ودليلا على الباطن في حال صحة الباطن، وهو لا يكون كذلك إلا إذا وجد فيه قول القلب وعمله، وسلم من الموانع، كما تقدم. وأما مجرد وجود الظاهر فلا يعني صلاح الباطن، فإن اللازم لا يدل إلا إذا كان ملزوما، ومن المعلوم أن الظاهر يفعله المؤمن والمنافق، فلا يدل على صلاح الباطن (٦)،ولذا فإن الإيمان الظاهر الذي يجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان الباطن المنجي يوم القيامة (٧)؛ "لأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا معتمدا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه، فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلافه" (٨).

المقام الثاني في نقض الأصل الإرجائي: إبطال دعواهم أن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله. فهم "قالوا: إن الحقيقة المركبة من أمور، متى ذهب بعض أجزائها انتفت تلك الحقيقة، كالعشرة المركبة من آحاد، فلو قلنا: إنه يتبعض؛ لزم زوال بعض الحقيقة مع بقاء بعضها" (٩)، وفي هذا إخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان كما تقوله الخوارج والمعتزلة، فوجب إخراج الأعمال من الإيمان؛ لئلا يكفر المؤمن (١٠).وفي الجواب عن هذه الحجة بين شيخ الإسلام رحمه الله أن (نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه تدل على ذهب بعضه وبقاء بعضه، كقوله: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) (١١) " (١٢).


(١) ((الصارم المسلول)) (٣/ ٩٦٩).
(٢) انظر: ((الصارم المسلول)) (٣/ ٩٦٨).
(٣) ((الصفدية)) (٢/ ٢٤٨).
(٤) ((الفتاوى)) (١٥/ ٣٩٠)؛ وانظر: ((الاستقامة)) (٢/ ١٣٦).
(٥) انظر: ((الفتاوى)) (١٨/ ٢٧٣).
(٦) انظر: ((الإيمان)) (ص٢٥٠) ((الفتاوى)) (٧/ ٢٦٣)؛ و ((الفتاوى)) (١٣/ ٢٦٨).
(٧) انظر: ((الإيمان)) (ص١٩٧ - ١٩٨)؛ وانظر منه، (ص٥).
(٨) ((الصارم المسلول)) (٣/ ٦٤٨)، ويقول شيخ الإسلام: "كل عمل في الظاهر من مؤمن لابد أن يصحبه عمل القلب، بخلاف العكس، فلا يتصور عمل البدن منفردا إلا من المنافق". ((المستدرك)) (٣/ ١٠٠).
(٩) ((الفتاوى)) (١٨/ ٢٧٦).
(١٠) وانظر: ((الفتاوى)) (١١/ ١٣٧).
(١١) رواه الترمذي (٢٥٩٣) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني, وقال في ((السلسلة)) (٢٤٥٠): صحيح على شرط الشيخين.
(١٢) ((الإيمان)) (ص٢١٠) ((الفتاوى)) (٧/ ٢٢٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>