للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: وقد سبق ذكر هذه الشبهة عند حكاية قول المعتزلة والخوارج، لاقتضاء المقام ذلك، وقد ذكر هناك أوجه عديدة وردود سديدة تكشف زيف هذه الشبهة وتبين بطلانها وفيه كفاية إن شاء الله.

الشبهة الثانية: قولهم إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لأنه التصديق القلبي الذي بلغ حد الجزم والإذعان، وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان حتى إن من حصل له حقيقة التصديق فسواء أتى بالطاعات وارتكب المعاصي فتصديقه باق على حاله لا تغيير فيه أصلاً (١).

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:

أحدها: جعلهم الإيمان الشرعي هو التصديق القلبي فقط والعمل خارج عن مسماه قول باطل، وقد تقدم الكلام في بيان بطلانه ونقضه من خلال اللغة، والشرع في صرد هذه الرسالة. ثانيها: لو فرض أن الإيمان هو التصديق وحده، فإنه يكون تصديقاً مخصوصاً، بمعنى أنه يشمل تصديق القلب واللسان والجوارح، إذ إن أفعال الجوارح تسمى تصديقاً كما دل على ذلك الشرع، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى ومدرك ذلك لا محالو، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)) (٢).وجاء عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال" (٣).فالعمل يصدق أن في القلب إيماناً، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيماناً؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم وقد ذكر شيخ الإسلام أنه قال بهذا القول أي: أن أفعال الجوارح تسمى تصديقاً أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف، وأطال في شرح ذلك وبيانه (٤).قال شيخ الإسلام: "واعلم أن الإيمان وإن قيل هو التصديق، فالقلب يصدق بالحق، والقول يصدق في القلب، والعمل يصدق القول ... " (٥).

فإذا علم هذا، وعلم معه أنه لا خلاف بين أهل السنة والمرجئة في أن الأعمال تتفاضل وتزيد وتنقص، تبين من ذلك وجه هذا الرد ووجاهته.

ثالثها: قولهم: "وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان" غير صحيح، بل باطل؛ لأن الزيادة والنقصان فيه متصورة عقلاً ثابتة شرعاً واقعة عرقاً؛ لأن كل مصدق بشيء يجد في نفسه تفاوتاً في التصديق من وقت لآخر بحسب تعدد الأدلة وقوة البراهين، وقد سبق الكلام على هذا والاحتجاج له في مبحث أوجه زيادة الإيمان ونقصانه وبين هناك أن الإيمان يزيد وينقص عند أهل السنة والجماعة من جهة التصديق، وذكر ما يدل على ذلك من نصوص الشرع ومن أقوال أهل العلم. رابعها: أن محققي هؤلاء تعقبوا هذا القول، ونبهوا على غلطه وذلك للقطع عندهم بأن تصديق آحاد الأمة ليس كتصديق النبي صلى الله عليه وسلم أو كتصديق جبريل عليه السلام أو كتصديق الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وقد اختار هذا القول النووي (٦)، وعزاه التفتازاني لبعض المحققين (٧)، وقال الإيجي في المواقف إنه الحق وذكر أن ذلك يتبين من وجهين:


(١) انظر ((شرح العقائد النسفية)) (ص١٢٥)، و (المسامرة شرح المسايرة)) (ص٣٦٩)، و ((النبراس شرح العقائد)) (ص٤٠٢).
(٢) رواه البخاري (٦٢٤٣) , ومسلم (٢٦٥٧) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) رواه ابن أبي شيبة في ((الإيمان)) (ص٣١).
(٤) انظر ((الفتاوى)) (٧/ ٢٩٣) وما بعدها، وانظر ((شرح العقيدة الطحاوية)) (٢/ ٤٧٨).
(٥) ((الصارم المسلول)) (ص٥٢٤).
(٦) انظر ((شرح مسلم)) للنووي (١/ ١٤٢).
(٧) انظر ((المواقف في علم الكلام)) (ص٣٨٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>