للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأول: القوة والضعف وعدم القول بالتفاوت يتقضي أن يكون إيمان النبي وآحاد الأمة سواء، وهذا باطل إجماعاً. الثاني: التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثبا عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال، والنصوص دالة على قبوله لهما (١).خامسها: أن يقال ما المانع من تفاوت التصديق وقبوله للزيادة والنقصان كما هو الشأن في تفاوت الناس في الأمور الأخرى غير التصديق، وقد نظر أهل العلم له بقوة البصر وضعفه، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه فمنهم الأخفش والأعشى ومن يرى الخط الثخين دون الرفيع إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة وآخر بضده" (٢).ومثل هذا التفاوت في الإبصار بين الناس التفاوت في التصديق بينهم، بل إن تفاوتهم في التصديق أعظم من تفاوتهم في أي شيء آخر (٣).سادسها: أن يقال لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم السلام. واللازم باطل فكذا الملزوم، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا القول عند ذكر قول محققي هؤلاء في هذه المسألة (٤).سابعها: أن يقال إن تفاوت التصديق في القلوب أمر يعلمه كل إنسان من نفسه فكل أحد يعلم أن ما قام في قلبه من التصديق واليقين في حين أقوى منه في بعض الأحيان، ومن ثم كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه ولا يتزلزل إيمانهم بعارض بل لا تزال قلوبهم منشرحة مستنيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة وما قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس (٥).

وفي هذه الأوجه كفاية، وليطالع معها ما سبق ذكره في مبحث أوجه زيادة الإيمان ونقصانه من تدليل ونقول عن السلف في ذلك.

الشبهة الثالثة: قولهم إن الزيادة والنقصان لا يدخلان إلا في شيء مخلوق، فمن قال إن الإيمان يزيد وينقص فالإيمان إذاً عنده مخلوق (٦).والجواب عن هذه الشبهة أن يقال: سبق بيان أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة يتفاضل من جهتين من جهة أمر الرب ومن جهة فعل العبد، وسبق التدليل على ذلك (٧). ولم يقل أحد ممن يعتد بكلامه أو يعتبر بقوله إنه يلزم من إثبات الزيادة والنقصان أن يكون الإيمان مخلوقاً ولم يقل أحد إنه يلزم من ذلك أن يكون غير مخلوق، وإنما طرح هذا من ابتلي ببعض الأهواء وأشرب ببعض البدع، ومن السؤالات التي طرحها أهل البدع قديماً على السنة والجماعة قولهم هل الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ وأشفى جواب في ذلك وأوفاه هو ما نقل عن الإيمان أحمد رحمه الله أنه سئل عن ذلك فأجاب بقوله: "أما ما كان من مسموع فهو غير مخلوق، وأما كان من عمل الجوارح فهو مخلوق" (٨).


(١) انظر ((المواقف في علم الكلام)) (ص٣٨٨).
(٢) انظر ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز (٢/ ٤٦٣).
(٣) انظر ((الفتاوى)) (ص٧/ ٥٦٩).
(٤) وانظر ((روح المعاني)) للألوسي (٩/ ١٦٥).
(٥) انظر ((شرح صحيح البخاري)) للنووي (١/ ١١٢) ضمن ((مجموع شروح البخاري)).
(٦) انظر ((السواد الأعظم)) لابن الحكيم السمرقندي (ص: ٣٣).
(٧) وانظر ((الفتاوى)) لابن تيمية (١٣/ ١٥) وما بعدها.
(٨) ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (١/ ٩٤) و ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (١/ ٤٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>