للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فبالتفصيل يستبين السبيل، فإن الإيمان يقصد به أمران: أمر الرب وفعل العبد، فما كان منه من أمر الرب فهو غير مخلوق بل صفة من صفات الخالق اللائقة بجلاله وكماله سحبانه، وأما ما كان منه من فعل العبد كالحركات فهو مخلوق. قال شيخ الإسلام: "وإذا قال الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ قي له: ما تريد بالإيمان؟ أتريد به شيئاً من صفات الله وكلامه كقوله: "لا إله إلا الله" وإيمانه الذي دل عليه اسمه المؤمن، فهو غير مخلوق، أو تريد وصفاتهم مخلوقة ولا يكون للعبد المحدث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة ولا يقول هذا من يتصور ما يقول، فإذا حصل الاستفسار والتفصيل ظهر الهدى وبان السبيل" (١).وقال الذهبي: "لا يجوز أن يقال الإيمان والإقرار والقراءة والتلفظ بالقرآن غير مخلوق فإن الله خلق العباد وأعمالهم والإيمان قول وعمل والقراءة والتلفظ من كسب القاري، والمقروء الملفوظ هو كلام الله ووحيه وتنزيله وهو غير مخلوق، وكذلك كلمة الإيمان وهي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله داخلة في القرآن وما كان في القرآن فليس بمخلوق، والتكلم بها من فعلنا وأفعالنا مخلوقة" (٢).

وعليه من قال إن الإيمان مخلوق أو قال غير مخلوق فهو مبتدع في كلا الحالين، إلا أن يفصل القول، ويعطي كل ذي حق حقه.

ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: "من قال الإيمان مخلوق فهو كافر ومن قال قديم فهو مبتدع".قال الحافظ عبدالغني المقدسي رحمه الله موضحاً هذا القول: "وإنما كفر من قال بخلقه؛ لأن الصلاة من الإيمان، وهي تستمل على قراءة وتسبيح وذكر الله عز وجل ومن قال بخلق ذلك كفر، وتشتمل على قيام وقعود وحركة وسكون، ومن قال بقدم ذلك ابتدع" (٣).

قلت: وبهذا البيان والتفصيل تزول شبهة هذا الملبس والله المستعان.

الشبهة الرابعة: قولهم إن الإيمان إنما يزيد وبغلبته على ضده وينقص بغلبة ضده عليه، قولوا والإيمان لا يحصل إلا بعد الغلبة على الكفر فلا يضامه حتى يقال إنه يغلب عليه (٤).

قلت: وهذه الشبهة مبنية على أن الإيمان عندهم لا يجتمع مع شيء من الكفر أو النفاق في القلب الواحد، فإن وجد الإيمان فلا وجد لشيء من الكفر في القلب، وكذلك لا وجود لشيء من النفاق، ولهذا قالوا: هنا: إنه إنما يزيد بغلبته على ضده وهو الكفر وينقص بغلبة ضده - وهو الكفر - عليه، أما أن يضامه ويجتمعان فمحال. قال شيخ الإسلام: "ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم - أي المرجئة - في هذا إعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين، كما ذكر ذلك أبو الحسن وغيره، فلأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي، إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة" (٥).

يقصد بذلك إجماع السلف على أن الإيمان يزيد وينقص ويقبل التفاضل ويتبعض كما هو ظاهر من دلالات النصوص.


(١) ((الفتاوى)) (٧/ ٦٦٤).
(٢) ((السير)) (١٤/ ٣٩، ٤٠)، وانظر ((السير)) أيضاً (١٢/ ٦٣٠).
(٣) انظر ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (٢/ ٣٤)، وانظر أيضاً ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (٣/ ٣٩٥).
(٤) انظر ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للأصفهاني (ص١٣٠)، وانظر ((شرح الفقه الأكبر)) لفخر الإسلام علي بن محمد بن حسين ق٣٣/أ.
(٥) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٠٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>