للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا ريب أن هذه تقبل الزيادة والنقصان، ومن ذا الذي يستريب في أن هناك سواداً أشد من سواد وحركة أقوى من حركة وسكوناً أهدى من سكون، فقبول هذه الأمور الزيادة والنقصان أمر لا ريب فيه، فإذا كان ذلك كذلك، فالإيمان كذلك يقبل الزيادة والنقصان كسائر الأعراض لا فرق. قال شيخ الإسلام: "إن نفس العلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت كما يتفاضل سائر صفات الحي من القدرة والإرادة، والسمع والبصر والكلام، بل سائر الأعراض من الحركة والسواد والبياض ونحو ذلك .... فما من صفة من صفات الحي وأنواع إدراكاته وحركاته بل وغير صفات الحي إلا وهي تقبل التفاضل والتفاوت إلى ما لا يحصره البشر" (١).أما حملهم النصوص الواردة في الزيادة على الثبات والدوام على الإيمان فتأويل باطل؛ لأن "حقيقة الزيادة لا يعقل منها الثبوت على الشيء، وإنما يعقل منها الزيادة في ذاته" (٢).

فالآيات الواردة المنصوص فيها على زيادة الإيمان المراد بها زيادة الإيمان نفسه علماً واعتقاداً وعملاً، كما في قوله تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: ١٢٤].

أي زادتهم تصديقاً وإقراراً بما فيها ثم عملاً بذلك التصديق. قال ابن جرير: "فإن قيل: فكيف زادتهم السورة تصديقاً وإقراراً قيل: زادتهم إيماناً حين نزلت؛ لأنهم قبل أن تنزل السورة لم يكن لزمهم فرض الإقرار بها، والعمل بها بعينها إلا في جملة إيمانهم بأن كل ما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله فحق، فلما أنزل الله السورة لزمهم فرض الإقرار بأنها بعينها من عند الله، ووجب عليهم فرض الإيمان بما فيها من أحكام الله وحدوده وفرائضه، فكان ذلك هو الزيادة التي زادهم نزول السورة حين نزلت من الإيمان والتصديق بها، وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل ... " (٣).

..... ثم أيضاً قول هؤلاء إن المراد بالزيادة في الإيمان هو الثبات والدوام عليه، يلزم منه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما يفضل غيره بدوام إيمانه وثباته لا غير، وقد قالوا بهذا القول والتزموا هذا اللازم الفاسد. قال شيخ الإسلام بعد أن أشار إلى قولهم هذا: "فهذا هو الذي يفضل به النبي صلى الله عليه وسلم غيره في الإيمان عندهم، ومعلوم أن هذا في غاية الفساد من وجوه كثيرة كما قد بسط في مواضع أخرى" (٤).٤ - ومنها حملهم للنصوص الواردة في زيادة الإيمان بأن المراد بها زيادة إشراق نوره في القلب وزيادة ثمراته (٥).

قلت: وهذا التأويل من جنس الذي قبله، مفاده صرف النص عن ظاهره الصريح إلى تأويلات بعيدة غير مرادة منه.


(١) ((الفتاوى)) (٧/ ٥٦٤، ٥٦٥).
(٢) ((الإيمان)) لأبي يعلى (ص٤٠٣).
(٣) ((تفسير ابن جرير)) (٧/ ٧٢).
(٤) ((الفتاوى)) (٧/ ١٥٣).
(٥) انظر ((المسامرة شرح المسايرة)) (ص٣٧٣)، و ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص١٢٥)، و ((إتحاف السادة المتقين)) (٢/ ٢٦٠)، و ((النبراس شرح العقائد)) (ص٤٠٤)، و ((السواد الأعظم)) (ص٣٨)، و ((البداية من الكفاية)) (ص١٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>