للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالغلط هنا الزعم بأن السلف يعللون الاستثناء بالموافاة، وأما كون خوف العاقبة من مآخذ الاستثناء التي قال بها السلف فهذا حق، وإنما الباطل أن يدعي أن الموافاة هي مأخذ السلف في ذلك، وفرق بين المأخذين كبير، فخوف العاقبة أمر محمود، والقول بالموافاة بدعة وضلالة، إذ هي مبنية على أصل فاسد، وهو أن الإيمان الذي يتعقبه كفر يموت صاحبه عليه ليس بإيمان.

وهذا الأصل المبتدع قاله "ابن كلاب، والأشعري، وأصحابه، ومن وافقهم من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم.

وأما أكثر الناس فيقولون: بل هو إذا كان كافرا فهو عدو لله، ثم إذا آمن واتقى صار وليا لله.

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ إلى قوله: عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة: ١ – ٧]، وكذلك كان، فإن هؤلاء أهل مكة الذين كانوا يعادون الله ورسوله قبل الفتح، آمن أكثرهم، وصاروا من أولياء الله ورسوله.

وابن كلاب وأتباعه بنوا ذلك على أن الولاية صفة قديمة لذات الله، وهي الإرادة والمحبة والرضا ونحو ذلك، فمعناها إرادة ثابتة بعد الموت، وهذا المعنى تابع لعلم الله، فمن علم أنه يموت مؤمنا لم يزل وليا لله؛ لأنه لم يزل الله مريدا لإدخاله الجنة، وكذلك العداوة.

وأما الجمهور فيقولون: الولاية والعداوة وإن تضمنت محبة الله ورضاه وبغضه وسخطه، فهو سبحانه يرضى عن الإنسان ويحبه بعد أن يؤمن ويعمل صالحا، وإنما يسخط عليه ويغضب بعد أن يكفر. كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد: ٢٨]، فأخبر أن الأعمال أسخطته، وكذلك قال: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف: ٥٥]، قال المفسرون: أغضبونا (١)، وكذلك قال الله تعالى: وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: ٧].

وفي الحديث الصحيح الذي في البخاري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله تعالى: ((من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن اسعتاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه)).فأخبر أنه لا يزال يتقرب إليه بالنوافل حتى يحبه، ثم قال: فإذا أحببته كنت كذا، كنت كذا، وهذا يبين أن حبه لعبده إنما يكون بعد أن يأتي بمحابه، والقرآن دل على مثل ذلك" (٢).

ثانياً: احتجاجهم بما جاء عن ابن مسعود، وبما روي عن عمر رضي الله عنه.

والجواب عن ذلك أن "ابن مسعود رضي الله عنه لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمنا، وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموت، فإن ابن مسعود أجل قدرا من هذا، وإنما أراد: سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال؟ كأنه قال: سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال؟


(١) انظر: ((جامع البيان)) (٢٥/ ٩٩ - ١٠٠)؛ و ((زاد المسير)) (٧/ ٣٢٢).
(٢) ((الإيمان)) (ص٤٢١ - ٤٢٢) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٤١ - ٤٤٣)؛ ثم استمر شيخ الإسلام رحمه الله في تقرير هذه المسألة حتى، (ص٤٢٦) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٤٦)؛ وانظر: ((الإيمان)) (ص٤١١ - ٤١٤) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٣٠، ٤٣٢)؛ و ((الفتاوى)) (٧/ ٦٦٧ – ١٦/ ٥٨٢)؛ و ((الرد على المنطقيين))، (ص٤٢٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>