للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لذلك كله استطاع أولئك القوم أن يرتبوا عقائدهم على أصول فلسفية، وأن يوجدوا لأنفسهم كلاما منطقيا مدققا، وأن يتقنوا المجادلة، فلما شمر المعتزلة عن سواعدهم لمناهضتهم وجدوا أنهم لن يتمكنوا من مجاراتهم ولن يتهيأ لهم الغلبة عليهم ما لم يعمدوا مثلهم إلى درس الفلسفة ويستفيدوا منها في دعم حججهم وتقوية أقوالهم؛ لذا أقبل المعتزلة على درس الفلسفة لأجل أن يتأتى لهم محاربة خصوم الدين الإسلامي بنفس سلاحهم، ويخاطبوهم بالأساليب التي درجوا عليها وألفوها. ولعل هذه الحاجة الماسة إلى الفلسفة هي التي دفعت المنصور إلى تشجيع الترجمة. . ولعلها أيضا هي التي حملت الرشيد والمأمون على الاهتمام بنقل الكتب اليونانية إلى العربية (١).يقول المقريزي: إنه ترجم بأمر المأمون في بضعة أعوام من حكمه عدد من الكتب فتلقاها المعتزلة وأقبلوا على تصفحها والنظر فيها (٢)، فاشتد ساعدهم بها وأول معتزلي استفاد من تلك الكتب فائدة ملموسة هو النظام الذي طالع كما يروي الشهرستاني كثيرا من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة (٣)، ثم اقتدى به غيره فكان المعتزلة أقدم المتكلمين في الإسلام، وهذه هي شهرتهم الأولى في التاريخ. . وإذا كان المعتزلة قد لجأوا إلى درس الفلسفة لا لذاتها؛ وإنما ليستخدموها في الرد على خصوم الدين الإسلامي؛ إلا أنهم منذ بدأوا في ذلك دخلوا في دور جديد من أدوار تاريخهم، فقد أحدثت الفلسفة في حياتهم انقلابا خطيرا وفي تفكيرهم ثورة عنيفة؛ لأنهم بعد أن وقفوا على مواضيعها وتعمقوا فيها أحبوها لذاتها وتعلقوا بها فنتج عن ذلك أمران:

أولهما: أنهم صاروا يعظمون الفلاسفة اليونان وينظرون إليهم نظرة أسمى من نظرتنا إليهم اليوم بل ويضعونهم في مرتبة تقرب من مرتبة النبوة حتى إنهم اعتبروا أقوالهم مكملة لتعاليم دينهم، وانهمكوا لذلك في إظهار الاتفاق الجوهري بينهما، فبدأ عمل المعتزلة الآخر؛ وهو التوفيق بين الدين الإسلامي وبين الفلسفة اليونانية؛ ذلك العمل الذي تركوه لمن خلفهم من الفلاسفة المسلمين. . الذين قاموا بنصيبهم فيه، وكانوا لا يقلون عنهم عناية به وتحمسا له.

ثانيا: إن المعتزلة أخذوا يبتعدون عن أهدافهم الدينية. . ويزدادون انصرافا إلى المسائل الفلسفية حتى جاء وقت كادت جهودهم فيه تقتصر على البحث في مواضيع الفلسفة البحتة كالحركة والسكون والجوهر والعرض والوجود والعدم، والجزء الذي لا يتجزأ. إن اشتغال المعتزلة بالتوفيق بين الدين والفلسفة وشغفهم بالأبحاث الفلسفية وتعمقهم فيها جعلهم يتأثرون بالفلسفة كثيرا، ويصيغون بها معظم أقوالهم. ولهذا قال شتينز (٤): إن الاعتزال في تطوراته الخيرة كان أكثره متأثرا بالفلسفة اليونانية.

وقد ساعدهم ما ذكرنا على الظهور والاشتهار لما يلي:

الأول: أن أخذهم من الفلسفات مما نمى آراءهم وأوجد لهم آراء جديدة.

الثاني: أن نماء موهبة المناظرة عندهم بسبب اتصالهم بهذه الفلسفات وأخذهم عنها جعلهم أبرز فرقة مسلمة تقف أمام الفلاسفة المعادين للإسلام، وهذا مما يرفع من شأنهم ويزيد في شهرتهم. الثالث: ظهور بعض الفلاسفة المسلمين الذين اشتغلوا بالفلسفة، فورثوا من المعتزلة بعض أقوالهم الفلسفية، وهذا مما يزيد في بقاء أقوالهم وشهرتها (٥).

المصدر:المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق – ص ٣٠


(١) ((المعتزلة)) (٤٨).
(٢) ((الخطط)) (٤/ ١٨٣).
(٣) ((الملل والنحل)) (١/ ٦٠).
(٤) ((الموسوعة العربية الميسرة)) (١١٠٢).
(٥) ((المذاهب الإسلامية)) (٢١٧)، ((المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية)) (٢٤)، ((المعتزلة)) (٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>