للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما تولى المأمون الخلافة سنة (١٩٨هـ) وكان على مثال أبيه الرشيد أو أشد في محبته العلم، وشغفه بالحكمة والحكماء، وصلته الدائمة بالشعراء والأدباء، بل إن المأمون زاد على أبيه كثيرا في ذلك، فطارت شهرته في العلم والفلسفة، وترجمة الكتب اليونانية إلى العربية، وحظي أحمد بن دؤاد – من كبار المعتزلة – بمكانة كبرى عنده، فلم يلبث ابن أبي دؤاد أن أثر على المأمون حتى أشرب رأي المعتزلة، وقال بقولهم، فكانت محنة القول بخلق القرآن المشهورة التي بدأت سنة (٢١٢هـ) (١)، وذلك حين كتب المأمون إلى ولاته في شتى الأقاليم بأمرهم بإلزام الناس – خاصة العلماء والفقهاء منهم – بالقول بخلق القرآن، وعقاب كل من لم يستجب له، ووقعت مناظرات ومناقشات بين أهل السنة والمعتزلة، وقد ادعى المأمون أن ما يقوله ويلزم الناس به هو الحق، وأن ما عليه أهل السنة باطل لا يدل عليه دليل، وذلك من خلال البيان الذي أرسله إلى ولاته (٢)، ونفذ الولاة طلب المأمون، فصارت ردود وأسئلة ومناقشات طويلة مع مجموعة من علماء الإسلام (٣)، منهم أحمد بن حنبل – رحمه الله – الذي امتحن طويلاً فأوذي وعذب وسجن، فوقف في وجوههم، وثبت على قوله ثبات الجبال، وأصر على قول الحق، والرد على المبطلين، فأيده الله، ونصره عليهم. ولاشك أن تسلط ابن أبي دؤاد كان له دور كبير في ذلك، فالمأمون الذي كان يحترم العلم والعلماء ما كان ليفرض رأيه على الناس بالقوة، وبهذه الصورة، ولكن نفوذ قاضيه القوي كان هو السبب، يقول محمد أبو زهرة: "إن المأمون قد استوزر أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، وجعله كاتبه، وصاحب السلطان في دولته، وكانت له منزلة في نفسه، حتى أوصى أخاه من بعده أن يجعله في منصبه لا يبعده، والكتب التي كتبت واضحة تماما أنها بلغة أحمد بن أبي دؤاد، ففيها إسهاب وطول، ولم يعرف أن الخلفاء إذا كتبوا بأنفسهم يسهبون ذلك الإسهاب، وترى التعبير فيها عن الخليفة بلغة الغائب، ولم يخطئ مرة ويكتبها بلغة المتكلم" (٤)، "وإننا إذا علمنا أن المأمون قد رأى ذلك الرأي – وهو خلق القرآن – منذ تولي الخلافة، بل قبلها، وكان يناقش فيه، ويدعو إليه في مجلس مناظراته، من غير أن يكشف عن القلوب، ويمتحن عن العقول، وينزل البلايا، فلماذا تحول ذلك التحول في آخر حياته؟ لماذا نقل المسألة إلى الابتلاء؟ لا شك أن أحمد بن أبي دؤاد كاتب هذه الكتب هو المحرض. إن العاقل يرد عليه سؤال يحيره: لماذا لم يتخذ المأمون ما اتخذ وهو في بغداد، والعلماء جميعا حوله، ولم يدع إلى الامتحان إلا وهو غائب عن بغداد بالكتب يرسلها، ثم يكون ذلك قريبا من موته؟ إنه سلطان أحمد بن أبي دؤاد الكامل" (٥)، ومع هذا فالمأمون لا تسقط عنه التبعة.


(١) انظر كتاب ((دول الإسلام))، للذهبي (١/ ١٣٠)، تحقيق. فهيم محمد شلتوت، ومحمد مصطفى إبراهيم، ط عام ١٩٧٤، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(٢) انظر: وثائق الرسائل حول محنة خلق القرآن، في كتاب: ((الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر العباسي الأول)): محمد ماهر حمادة (ص٣٢٥) وما بعدها, الطبعة الأولى ١٣٩٩هـ- وانظر رسائل المأمون المشهورة أيضا في ((تاريخ الطبري)) (٨/ ٦٣١) وما بعدها – ط المعارف بمصر.
(٣) انظر صورة من هذه المناقشات في ((تاريخ الطبري)) (٧/ ٦٣٧).
(٤) ((أحمد بن حنبل))، تأليف: محمد أبو زهرة (ص٥٩ - ٦٠)، طبع ونشر دار الفكر العربي، وأود أن أشير إلى أن أبا زهرة قد أيد المعتزلة في قولهم بخلق القرآن – وإن كان قد خطأهم في أسلوبهم وعرض آرائهم بالقوة، انظر (ص ٦١ - ٦٢).
(٥) ((أحمد بن حنبل))، تأليف: محمد أبو زهرة (ص٥٩ - ٦٠)، طبع ونشر دار الفكر العربي.

<<  <  ج: ص:  >  >>