للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونحن نرى أن عمرا ربما لبس على أبي جعفر المنصور، وإن كان قد دعا إلى بيعة يزيد، فمما لا شك فيه أنها إحدى أساليب الفرق المنحرفة؛ وذلك لمناصرة هذا الخليفة القدري؛ ليمكن القدرية من رقاب الأمة، واضطهاد علمائها، وقد اهتم عمرو بن عبيد في تمتين روابطه مع الخلافة الجديدة، ولم تمض فترة من الزمن حتى تمكنت المعتزلة من عدة خلفاء من خلفاء بني العباس، وساموا الأمة العذاب في محنة خلق القرآن. ويؤكد الإمام الذهبي (٧٤٨هـ) "، وابن كثير – رحمهما الله – تعالى -، أن أبا جعفر اغتر بزهد عمرو، وأخفى بدعته، فيقول الذهبي: قد كان أبو جعفر المنصور يعظم عمرو بن عبيد، ويثني عليه، ويقول: "كلكم يمشي رويداً، وكلكم يطلب صيداً، غير عمرو بن عبيد" (١)، وعلق على ذلك، فقال: "اغتر بزهده، وإخلاصه، وأغفل بدعته" (٢)، وقال ابن كثير: "كان عمرو يغر الناس بتقشفه، وهو مذموم ضعيف الحديث جدا ... ، وقد كان محظياً عند أبي جعفر المنصور، وكان المنصور يحبه، ويعظمه؛ لأنه كان يفد على المنصور مع القراء، فيعطيهم المنصور، فيأخذون، ولا يأخذ عمرو منه شيئاً، وكان يسأله أن يقبل كما يقبل أصحابه، فلا يقبل منه؛ فكان ذلك يغر المنصور، ويروج به عليه حاله؛ لأن المنصور كان بخيلاً، وكان يعجبه ذلك منه، ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من أولئك القراء خير من ملء الأرض مثل عمرو بن عبيد، والزهد لا يدل على صلاح؛ فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد ما لا يطيقه عمرو، ولا كثير من المسلمين في زمانه" (٣).هذه صورة موجزة عن حياة عمرو بن عبيد، الذي توفي سنة " (١٤٤هـ) " (٤)، وسوف نرى خطورة بدعته، وآرائه الضالة، عند حديثنا عن الآراء التي جاء بها عمرو مع واصل بن عطاء، أو منفرداً عنه، بإذن الله.

٣ - طبيعة العلاقة بين واصل، وعمرو بن عبيد:

أما عن طبيعة العلاقة التي ربطت بين واصل، وعمرو بن عبيد، وكيف اتحدت جهودهما للدعوة لهذه البدعة الجديدة، فمن المعلوم أن واصلاً كان في المدينة المنورة، وقد سبق أن عرضنا لرسالة ذكرها صاحب (العقد الفريد)، وفيها يذكر واصل شكوى الحسن البصري من عمرو بن عبيد، ومخافته من الإحداث، والابتداع في الدين؛ فهذه الرسالة تبين وجود علاقة قوية بين واصل، وعمرو بن عبيد، ولكن هل يعني هذا أن واصلاً لم يقابل عمرو بن عبيد من قبل، فما طبيعة هذه العلاقة إذن؟ أم أن واصلاً قد قابله، ثم رجع إلى المدينة، وقابل الحسن البصري عند زيارته لها؟ ولكننا نريد أن نضع بعض الملاحظات على هذه الرسالة، كما سبق وقلت؛ فهل كان عمرو بن عبيد يغلو في آرائه، وفي تأويلاته أكثر من واصل؟ وهل لاحظ واصل أن عمرا قد تسرع في الإفصاح عن مذهبهما القبيح؛ كما جاء في نص الرسالة؟ وهل كان هذا المذهب يخوض في القدر، والأسماء، والصفات، وغيرها من مسائل الاعتقاد؟.

ولكن هذه الرسالة لا نجد فيها أي أثر يذكر للخلاف المذكور فيما بين واصل، وعمرو بن عبيد؛ مما يجعلنا نضعها تحت اعتبارين:


(١) ((تاريخ الإسلام)) (٦/ ٢٤٢).
(٢) ((سير أعلام النبلاء)) (٦/ ١٠٥).
(٣) ابن كثير، ((البداية والنهاية)) (١٠/ ٨٢).
(٤) ((تاريخ بغداد)) (١٢/ ١٨٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>