للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الاعتبار الأول: هو أن يكون هناك خلاف حقيقي في الإفصاح عن هذه البدعة مبكراً، ولعل رأي واصل هو التأني في طرح البدعة التي تحيك في صدريهما، والاعتبار الثاني: هو أن يكون خلافاً صورياً، يعرض فيه واصل أمام الناس اتباعه لمذهب الحسن البصري، وأن المخالف هو عمرو بن عبيد، ومهما يكن من الاعتبارات السابقة، إلا أن أرباب البدع يجعلون من مثل هذه المراسلات، والنصوص، سبيلاً لدفع الشبه المثارة حولهم، مع بقاء بدعتهم قائمة، لم ينقصوها بشيء، بل عن سبيل البدعة، وازدياد انحرافها، فاق التصور. ولكن طبيعة العلاقة بين الرجلين يبدو فيها بعض الجدال، والمحاورة، حتى استقامت، ووضعت في إطارها الموحد؛ فقد قيل إن هناك جدالاً بين واصل، وعمرو بن عبيد، في مسألة الفاسق، وهذه المحاورة لا ندري مدى صحتها، ولكننا سنثبتها؛ فقد ساقها ابن المرتضى على النحو التالي: "قال واصل لعمرو: ألست تزعم أن الفاسق يعرف الله - تعالى -، خرجت المعرفة من قلبه عند قذفه، فإن قلت: لم يزل يعرف الله، فما حجتك، وأنت لم تسمه منافقا قبل القذف؟ وإن زعمت أن المعرفة خرجت من قلبه عند قذفه، قلنا لك: فلم لا أدخلها في القلب بتركه القذف، كما أخرجها بالقذف، وقال له: أليس الناس يعرفون الله بالأدلة، ويجهلونه بدخول الشبهة، فأي شبهة دخلت على القاذف، فرأى عمرو لزوم هذا الكلام، فقال: ليس بيني، وبين الحق عداوة، فقبله، وانصرف، ويده في يد واصل" (١).

وبغض النظر عن صحة هذا النص، فالعبرة في أن عمراً قد وضع يده في يد واصل، وقال له: ليس بيني وبين الحق عداوة؛ فأي حق يعبر عنه عمرو، إذا كان يرى أن ما عليه من بدعة هو الحق، ولكنهم اتخذوا الباطل، ومعاداة الحق وأهله، منهجا لهم، ولو صحت هذه المناظرة، وكانت أمام جمع من الناس، فهي عبارة عن استعراض متفق عليه لإعلان الوحدة بين الرجلين، لتكثير سواد المبتدعة، الذين بدأ نجمهم يبرز مع قدوم واصل إلى البصرة، ووضع يده بيد عمرو بن عبيد. ومنذ قدوم واصل إلى البصرة، بدا نشاط المعتزلة يأخذ طابع التنظيم، والتنسيق، وذلك بالإعلان عن خطب لواصل يقدمه فيها، ويعقب عليها عمرو بن عبيد نفسه، فقد روى الخطيب البغدادي عن أبي عوانه (١٧٠هـ) " قال: "شهدت عمرو بن عبيد، وأتاه واصل الغزال، قال: وكان خطيب القوم "يعني المعتزلة فقال عمرو: تكلم يا أبا حذيفة، فخطب، فأبلغن قال: ثم سكت، فقال عمرو: ترون لو أن ملكاً من الملائكة، أو نبيا من الأنبياء، كان يزيد على هذا؟! " (٢).ويقيني أن هذا التعقيب من عمرو بن عبيد قد قيل لقوم استسلمت عقولهم، وجوارحهم، لهذا الهراء الاعتزالي، والذي لم يجد من يرد عليه في ذلك المجلس، ولكن هذه الدعاية المقصود منها الرفع من قيمة المبتدعة، في وسط هؤلاء الأغرار، الذين يتوهمون أن كل ما يقال في هذه المجالس إنما هو لنصرة هذا الدين، وحتى عمرو بن عبيد، كان يمتدح نفسه بمثل المديح السابق، فهذا أبو عوانة يقول – أيضا -: "ما رأيت عمرو بن عبيد قط، ولا جالسته إلا مرة واحدة، فتكلم، وطول، ثم قال: لو نزل ملك من السماء ما زادكم على هذا" (٣).وتتوثق العلاقة بين عمرو، وواصل، عندما يزوج عمرو أخته لواصل، قال ابن علية: "أول من تكلم في الاعتزال واصل بن عطاء الغزال، فدخل معه في ذلك عمرو بن عبيد، فأعجب به، وزوجه أخته، وقال لها: زوجتك برجل ما يصلح إلا أن يكون خليفة" (٤)، وبهذه المصاهرة أصبحت المعتزلة تنمو بصورة علنية، وتؤسس البدع، وتنشرها في أوساط المسلمين، وهذا ما ينقلنا إلى استجلاء مقالات المعتزلة التي ابتدعوها، وخالفوا فيها عقيدة السلف.

المصدر:العقيدة الإسلامية لعطا الله المعايطة - ص ٦٢٣


(١) ((المنية والأمل)) (ص١٤٤).
(٢) ((تاريخ بغداد)) (١٢/ ١٧٥).
(٣) ((تاريخ بغداد)) (١٢/ ١٧٥).
(٤) الذهبي، ((تاريخ الإسلام)) (٦/ ٢٤١).

<<  <  ج: ص:  >  >>