للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقال لهم: أما قولكم أن الله تعالى لو كان عالما بعلم؛ فإما أن يكون ذلك العلم قديما أو يكون محدثا. فهذا نوافقكم عليه، فإنه لا ثالث لهذين القسمين.

وأما قولكم "ولا يمكن أن يكون علما محدثا. . "؛ فهذا نوافقكم عليه أيضا، فإن الصفة ليست حادثة بل هي قديمة بقدم موصوفها، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

بقي الآن قولكم "ولا يمكن أن يكون علما قديما؛ لأنه يوجب تعدد القدماء. . ".

ونقول: "إن قولكم هذا فيه إجمال، لا نجيبكم عليه حتى نعرف مرادكم منه؛ إن أردتم بقولكم ". . علما قديما" بمعنى القائم بنفسه المستقل عن موصوفه؛ فصفة العلم ليست قديمة بهذا الاعتبار، بل هي صفة القديم. وإن أردتم بقولكم "قديما" بمعنى أنه لا ابتداء له، ولم يسبقه عدم مطلق، فصفة العلم قديمة بقدم موصوفها، وإذا كان قدمها تابعا لقدم موصوفها: فليس هناك تعدد قدماء كما تزعمون، بل هناك قديم وصفته، ولا يلزم من كون الصفة قديمة لقدم موصوفها أن يكون هناك تعدد، وإلا للزم أن تكون صفة الإله إلها، وصفة الإنسان إنسانا (١)، وبطلان هذا لا شك فيه عند من له شيء من العقل، وما يؤدي إلى الباطل فهو باطل؛ وبذلك يبطل تعدد القدماء الذي تزعمونه من إثبات الصفات، وعليه فإن شبهتكم هذه تنتقض ببطلان أحد مقدماتها، وهو قولكم "ولا يمكن أن يكون قديما. . ". والله أعلم.

الشبهة الثانية: يقول يحيى بن الحسين (٢) – وهو من أئمة الزيدية -: ". . وأما ما ذكر من العلم فإنه لا يخلو من أن يكون الله العالم بنفسه ويكون العلم من صفاته في ذاته لا صفته لغيره، فقد جعل مع الله سواه، ولو كان مع الله سواه؛ لكان أحدهما قديما والآخر محدثا، فيجب على من قال بذلك أن يبين أيهما المحدث لصاحبه، فإن قال: إن العلم أحدث الخالق كفر، وإن قال: إن الله أحدث العلم، فقد زعم أن الله كان غير عالم حتى أحدث العلم، ومتى لم يكن العلم فضده لا شك ثابت، وهو الجهل، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإن رجع هذا القائل الضال إلى الحق من المقال. . فقال: إنه العالم بنفسه. . وأنه لا علم ولا عالم سواء. . " (٣).

المناقشة:

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه منها:

الأول: أما قولكم أن يقال الصفة عين الذات، كالعلم يقال فيه عين العالم، فإنه يوجب الكثرة في الذات؛ وذلك لما يلي:

أ- أن هناك فرقا بين قولنا: ذاته ذاته، وبين قولنا: ذاته علمه، فإن هذا يوجب التغاير، ومن ثم يوجب الكثرة في الذات. ب- أن حقيقة العلم مغاير لحقيقة القدرة ولحقيقة الحياة والإرادة، فلو كان الكل عبارة عن حقيقة ذاته لزم القول بأن الحقائق الثلاثة حقيقة واحدة، وذلك باطل. وأيضا فإنه يوجب الكثرة في الذات (٤)، وهو باطل فما يؤدي إليه مثله، وبذلك يبطل الجزء الأول من الشبهة. الثاني: أما قولكم "أو غيرها" أي: الذات. نقول: لفظ الغير مجمل إن أريد به ما هو مباين له تعالى، فلا يدخل علمه وسائر صفاته في لفظ الغير، كما يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) (٥). وقد ثبت في السنة جواز الحلف بصفاته تعالى كعزته وعظمته، فعلم أنها لا تدخل في مسمى الغير عند الإطلاق. وإذا أريد بالغير أنه ليس هو إياه، فلا ريب أن العلم ليس هو العالم (٦) كما بيناه في الرد على الجزء الأول من الشبهة.


(١) ((منهاج السنة النبوية)) (٢/ ٩٥)، بتصرف.
(٢) ((رسائل العدل والتوحيد)) (٢/ ٢).
(٣) ((رسائل العدل والتوحيد)) (٢/ ١٣٧).
(٤) ((الأربعين في أصول الدين للرازي)) (١٣٥)، بتصرف.
(٥) ((تحفة الأحوذي)) (٥/ ١٣٦).
(٦) ((منهاج السنة النبوية)) (٢/ ٤٣٣)، بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>