للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى ذلك فلا نقول الصفة عين الذات – كما تزعمون – لما فيه من اللوازم الفاسدة التي سبق عرض بعضها؛ وليست الصفة غير الذات بمعنى مباينة لها بل هي صفة الذات بمعنى أنها ليست هي الذات، ولا يلزم من كون الصفة ليست هي الموصوف لا يلزم من ذلك أن يكون مع الله سواه، لأن الصفة تابعة للموصوف غير مستقلة عنه، كما أنها تتبعه قدما وحدوثا، وبما أن الله قديم فإن صفاته قديمة بقدمه، وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم.

الشبهة الثالثة: يروي الشهرستاني عن المعتزلة أنهم قالوا: "لو قامت الحوادث بذات الباري تعالى لا تصف بها بعد أن لم يتصف، ولو اتصف لتغير، والتغير دليل الحدوث؛ إذ لابد من مغيره" (١).

المناقشة: نقول: شبهتكم هذه تتبنى على إلزامكم بأن الصفات حادثة، وهو إلزام باطل لما يلي:

أولا: أن القول بحدوث الصفة يشير إلى أن الله تعالى كان جاهلا حتى أحدث العلم، وعاجزا حتى أحدث القدرة، ووصف الله بالجهل أو العجز كفر بلا خلاف؛ لأنه وصف له بصفة نقص تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فما يؤدي إليه مثله.

ثانيا: أنا لم نقل: أن الصفات حادثة، بل قلنا: إنها تابعة لموصوفها بالقدم من غير أن تكون مستقلة عنه على التفصيل الذي سبق ذكره في كلمة القديم عند الرد على الشبهة الأولى، وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم.

الشبهة الرابعة: يقول الرازي (٢) – وهو يحكي شبهات المعتزلة في نفي الصفات: "والشبهة السادسة: أن الله تعالى إنما كفر النصارى في قوله تعالى: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ [المائدة: ٧٣]. فلا يخلو إما أن يقال أنه تعالى إنما كفرهم؛ لأنهم أثبتوا ذواتا ثلاثة قديمة بأنفسها، أو لأنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات متباينة، والأول باطل؛ لأن النصارى لا يثبتون ذواتا ثلاثة قديمة قائمة بأنفسها، ولما لم يقولوا بذلك استحال أن يكفرهم الله بسبب ذلك، ولما بطل القسم الأول ثبت القسم الثاني، وهو أنه تعالى إنما كفرهم لأنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات متباينة، ولما كفر النصارى لأجل أنهم أثبتوا صفاتا ثلاثة، فمن أثبت الذات مع الصفات فقد أثبت أكثر من ثلاثة، وكان كفره أعظم من كفر النصارى؛ لأنه أثبت أكثر مما أثبتوا. . " (٣).

المناقشة: يقال لهم: إن استدلالكم بهذه الآية باطل؛ وذلك أن الله تعالى إنما كفر النصارى لأنهم أثبتوا صفاتا ثلاثة، هي في الحقيقة ذوات بدليل اعتبارهم إياها آلهة، ومن أثبت كثرة في الآلهة فلا شك في كفره (٤)؛ ويدل على أنهم يعتبرونها آلهة قوله تعالى في آخر الآية: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة: ٧٣]. فحصره سبحانه وتعالى الألوهية في واحد بعد تكفيره من قال: إن الله ثالث ثلاثة؛ دليل على أن المراد من ثلاثة ثلاثة آلهة. وبدليل قوله تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ [النساء: ١٧١].يقول القرطبي – عند تفسير هذه الآية –: "المعنى: ثلاثة آلهة" (٥).ويقول الرازي – في معرض رده على هذه الشبهة –: ". . ألا ترى أنهم – أي: النصارى – جوزوا انتقال أقنوم الكلمة من ذات الله إلى بدن عيسى – عليه السلام – والشيء الذي يكون مستقلا بالانتقال من ذات إلى ذات أخرى، يكون مستقلا بنفسه قائما بذاته؛ فهم وإن سموها صفات؛ إلا أنهم قائلين في الحقيقة بكونها ذوات، ومن أثبت كثرة في الذوات المستقلة، فلا شك في كفره" (٦).


(١) ((نهاية الإقدام)) (١١٥).
(٢) ((الأعلام)) (٧/ ٢٠٣)، ((معجم المؤلفين)) (١١/ ٧٩).
(٣) ((الأربعين في أصول الدين)) (١٥٩).
(٤) ((التفسير الكبير)) (١٢/ ٦٠)، ((الأربعين في أصول الدين)) (١٦٥).
(٥) ((تفسير القرطبي)) (٦/ ٢٥٠).
(٦) ((الأربعين في أصول الدين)) (١٦٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>