للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من هذه الأقوال؛ يظهر أن النظام والكعبي، ومن تابعهما من البغداديين يظهر أنهم يرون أن الله لا يسمع، ولا يبصر شيئاً على الحقيقة، ويؤولون وصفه بالسميع والبصير على معنى العلم بالمسموعات والمرئيات. ولذا يقول الكعبي - وهو يشرح هذا الرأي -: "إن الذي يجده الإنسان من نفسه إدراكه للمسموع والمبصر بقلبه وعقله، فهو لا يحس بصره بالمبصر؛ بل يحس المبصر، ويسمع المسموع؛ وذلك هو العلم حقيقة، ولما كان ذلك العلم لا يحصل إلا بوسائط سمعه وبصره؛ سمي كل من السمع والبصر حاسة، وإلا فالمدرك هو العالم، وإدراكه ليس زائداً على علمه، والدليل على ذلك: أن من علم شيئاً بالخبر ثم رآه بالبصر، وجد أن شعور النفس بهما في الحالتين واحدة، فهو لا يجد فرقاً إلا في الجملة والتفصيل والعموم والخصوص، وليس فرق جنس وجنس، أو نوع ونوع" (١).

من عرضنا لرأي المعتزلة في صفتي السمع والبصر، نستخلص أنهم قد اتفقوا على نفيهما قائمتين بذاته تعالى حقيقة، ولذا فإنهم أولوا ما ورد في الكتاب والسنة من إشارة إلى هاتين الصفتين، بأن المقصود بهما حياته، كما يراها البصريون أو العلم، كما يراها البغداديون ....

الرد على المعتزلة في نفيهم لصفتي السمع والبصر:

إن قول المعتزلة بنفي صفتي السمع والبصر عن الله تعالى باطل، وبيان ذلك أن النقل والعقل قد دلا على ثبوت صفتي السمع والبصر له تعالى، فالقول بنفيهما مخالفة للنقل الصريح من الكتاب والسنة ومخالفة للعقل الصحيح، وما خالفهما باطل بالاتفاق.

فمن النقل: قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشوري: ١١].

ففي هذه الآية دلالة صريحة على وصف الله تعالى بالسمع والبصر.

وقال تعالى حاكياً ما قاله إبراهيم عليه السلام لأبيه-: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [مريم: ٤٢].

وجه الدلالة: يقول ابن خزيمة: "أفليس من المحال أن يقول خليل الرحمن لأبيه: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [مريم: ٤٢]. فيعيبه بعباده ما لا يسمع، ولا يبصر، ثم يدعوه إلى عبادة ما لا يسمع ولا يبصر كالأصنام التي هي من الموتى لا من الحيوان ... " (٢). فدل ذلك على ثبوت صفتي السمع والبصر له تعالى على ما يليق بجلاله.

وقال تعالى: أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: ٣٤ - ٤٤].

وجه الدلالة: يقول ابن خزيمة: "إن الله تعالى أخبر بهذه الآية أن، من لا يسمع، ولا يعقل كالأنعام، فدل على ثبوت صفتي السمع والبصر له سبحانه وتعالى؛ وإلا لزم اتصافه تعالى بصفة النقص التي أثبتها لمن لا يسمع ... تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً" (٣).وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم في سفر فكنا إذا علونا كبرنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً ... الحديث)) (٤).


(١) ((نهاية الإقدام)) (ص٣٤٣).
(٢) ((التوحيد)) لابن خزيمة (ص٣٣).
(٣) ((التوحيد)) لابن خزيمة (ص٤٦).
(٤) رواه البخاري (٢٩٩٢) , ومسلم (٢٧٠٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>