للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلنا الإحاطة ليس هي بمعنى الإدراك لا في حقيقة اللغة ولا في مجازها ألا ترى أنهم يقولون: السور أحاط بالمدينة، ولا يقولون: أدركها أو أدرك بها، وكذلك يقولون: عين الميت أحاطت بالكافور ولا يقولون أدركته.

وبعد: فإن قبل هذا تأويل بخلاف تأويل المفسرين فلا يقبل، على أنه كما لا تحيط به الأبصار لا يحيط هو بالأبصار لأن المانع عن ذلك في الموضعين واحد فلا يجوز حمل الإدراك المذكور في الآية على الإحاطة لهذه الوجوه.

فإن قيل: لا تعلق لكم بالظاهر، لأن الذي يقتضيه الظاهر هو أن الأبصار لا تراه ونحن كذلك نقول.

قيل له: إنه تعالى تمدح بنفي الرؤية عن نفسه فلابد من أن يحمل على وجه يقع به البينونة بينه وبين غيره من الذوات بهذا الذي قد ذكرتموه لأن الأبصار كما لا تراه فكذلك لا ترى غيره.

فإن قيل: لو كان المراد بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: ١٠٣] المبصرون، لوجب مثله في قوله: وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: ١٠٣] أن يكون المبصرين ليكون النفي مطابقا للإثبات، وهذا يقتضي أن يرى القديم نفسه لأنه من المبصرين وكل من قال إنه تعالى يرى نفسه قال إنه يراه غيره.

قيل له: إنه تعالى وإن كان مبصرا فإنما يرى ما تصح رؤيته، ونفسه يستحيل أن ترى، لما قد بينا أن تمدح بنفي الرؤية مدحا يرجع إلى ذاته، وما كان نفيه راجعا إلى ذاته فإن إثباته نقص والنقص لا يجوز على الله تعالى.

وبعد: فإن المراد بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: ١٠٣] المبصرون بالأبصار فكذلك في قوله وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: ١٠٣] فيجب أن يكون هذا هو المراد ليكون النفي مطابقا للإثبات والله تعالى ليس من المبصرين بالأبصار فلا يلزم ما ذكرتموه.

فإن قيل: قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: ١٠٣] عام في دار الدنيا ودار الآخرة وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: ٢٢ - ٢٣] خاص في دار الآخرة ومن حق العام أن يحمل على الخاص كما أن من حق المطلق أن يحمل على المقيد. وربما يستدل بهذه الآية ابتداء على أنه تعالى يرى في دار الآخرة.

وجوابنا أن العام إنما يبنى على الخاص إذا أمكن تخصيصه، وهذه الآية لا تحتمل التخصيص لأنه تعالى يمدح بنفي الرؤية عن نفسه مدحا يرجع إلى ذاته وما كان نفيه مدحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا، والنقص لا يجوز على الله تعالى على وجه. وبعد فإن هذه الآية إنما تخصص تلك الآية إذا أفادت أنه تعالى يرى في حال من الحالات وليس في الآية ما يقتضي ذلك لأن النظر ليس هو بمعنى الرؤية، هذا هو الجواب عنه إذا تعلقوا به على هذا الوجه (١).وزاد الإمامية على ذلك أيضا أوهام القلوب لا تدركه فكيف بأبصار العيون فقالوا في قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ: (أي إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ ليس يعني بصر العيون فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ليس يعني من البصر بعينه وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام: ١٠٤] ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب. والله أعظم من أن يرى بالعين (٢).


(١) ((شرح الأصول الخمسة)) (٢٣٣)، ((المغني)) (٤/ ١٤٥).
(٢) ((شرح أصول الكافي)) للكليني – شرح عبد الحسين المظفر (٣/ ١٠٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>