للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد استعراضنا لغالب هذه الافتراضات المعارضة وردهم عليها والمحاولات الجادة لكي يسلم لهم الدليل على نفي رؤية الله تعالى نقول: لسنا بحاجة إلى تتبع كل هذه الافتراضات ومناقشتها لأنها مبنية على وجهة استدلال خاطئة وسنبين إن شاء الله الخطأ في وجه الدلالة وهذا كاف لإزاحة الدليل عن مرادهم، فقد بنوا استدلالهم بالآية على وجهين:

الأول: على أن الإدراك المقرون بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية وقد نفي والنفي عام في جميع الأوقات والأزمان.

الثاني: أن الله تمدح بكونه لا يرى - على فهمهم – وما كان عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله عنه.

والجواب على الوجه الأول بأوجه:

الوجه الأول: أن هذا افتراء على اللغة وأنه مجرد دعوى لا دليل عليها وقد رد على هذه الدعوى ابن حزم في الفصل. قال: (واحتجت المعتزلة بقوله عز وجل: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (قال أبو محمد) هذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك، والإدراك عندنا في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية وهو معنى الإحاطة ليس هذا المعنى في النظر والرؤية فالإدراك منفي عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة، برهان ذلك قول الله عز وجل: فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: ٦١] وأخبر تعالى أنه رأى بعضهم بعضا فصحت منهم الرؤية لبني إسرائيل ونفى الله الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم: قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: ٦١] فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ولا شك في أن ما نفاه الله تعالى غير الذي أثبته فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا هو الله تعالى (١).

قال ابن القيم: (فلم ينف موسى عليه السلام الرؤية ولم يريدوا بقولهم إِنَّا لَمُدْرَكُونَ إنا لمرئيون فإن موسى عليه السلام نفى إدراكهم إياهم بقوله كَلا وأخبر الله سبحانه أنه لا يخاف دركهم بقوله وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [طه: ٧٧]. فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه فالرب تعالى يرى ولا يدرك كما لا يعلم ولا يحاط به وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من بعدهم من الآية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ لا تحيط به الأبصار، وقال قتادة هو أعظم من أن تدركه الأبصار، وقال ابن عطية: ينظرون إلى الله ولا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم (٢).الوجه الثاني: أن تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ موجبة كلية، وقد دخل عليها النفي فرفعها ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية، وبالجملة فيحتمل إسناد النفي إلى الكل ومع احتمال الثاني فلم يبق فيه حجة لكم علينا، لأن أبصار الكفار لا تدركه، هذا على تقدير أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق وإلا عكسنا القضية، وقلنا لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ سالبة مهملة في قوة الجزئية فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار، وتخصيص البعض بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات للبعض، فالآية حجة لنا (٣).


(١) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (٣/ ٢).
(٢) ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (٢١٩).
(٣) ((شرح المواقف)) (٨/ ١٤٠)، ((اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع)) لأبي الحسن الأشعري (٦٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>