فإن قيل: ما أنكرتم أن المانع من رؤية الله تعالى هو أنه تعالى لم يشأ أن يرينا نفسه ولو شاء لرأيناه.
قلنا: المشيئة إنما تدخل فيما يصح دون ما يستحيل، وقد بينا أن الرؤية تستحيل عليه تعالى فلا يعلم ما ذكرتموه، وبعد فلو جاز ذلك في القديم تعالى لجاز مثله في المعدوم، فيقال إن المعدوم إنما لا يرى لأنه تعالى لا يشاء أن نراه ولو شاء لرأيناه فكما أن ذلك خلف من الكلام كذلك ههنا.
فإن قال: ما أنكرتم أن هذه الأمور التي عددتموها ليست بموانع؟
قلنا: إن كان الأمر على ما ذكرته فقد ارتفع غرضنا لأن غرضنا بيان أن الموانع عن الرؤية مرتفعة، وأنه تعالى لو كان مرئيا في نفسه لوجب أن نراه الآن، وهذا قد تم بما ذكرتموه، على أنا قد بينا أن هذه الأمور موانع بما لا يمكن دفعه.
فإن قيل: ما أنكرتم أنا نرى القديم تعالى الآن؟
قلنا: لو رأيناه لعلمناه ضرورة لأن الرؤية طريق إلى العلم، وهذا يوجب أن نجد كوننا عالمين به من أنفسنا وقد عرف خلافه.
فإن قيل: أليس أنه تعالى حاصل على الصفة التي لو علم لما علم إلا لكونه عليها والواحد منا حاصل على الصفة التي لو علم ما علم إلا لكونه عليها، والموانع المعقولة عن العلم مرتفعة ثم لا يجب في كل عاقل أن يعلم القديم تعالى فهلا جاز مثله في مسألتنا أن يكون القديم حاصلا على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها، والواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها، ثم لا يجب أن نراه الآن. قلنا: إن بين الموضعين فرقا لأن المصحح في كونه عالما غير الموجب له إذ المصحح له إنما هو كونه حيا والموجب له إنما هو العلم وليس كذلك في كونه مدركا لأن المصحح له هو كونه حيا وهو الموجب له أيضا ففارق أحدهما الآخر (١).
هذا سياق دلالة الموانع باعتراضاتها وردودها كما قررها عبد الجبار بن أحمد المعتزلي وللرد على هذه الدلالة نقول كما قال الرازي: لا نسلم عند عدم الموانع – التي ذكرتم – من الرؤية وجوب الإبصار، ولا امتناعه عند توفرها.
ويؤيد هذا ما يأتي:
أولا: رؤية الجسم الكبير من البعد صغيرا فإن كانت الرؤية لجميع أجزائه، وجب ألا يرى صغيرا. وإن لم ير شيئا من أجزائه وجب إلا يرى. وإن رئي بعض أجزائه دون بعض مع أن جميع الأجزاء بالنسبة إلى الموانع أو عدمها سواء لزم عدم الوجوب أو الامتناع.
ولا يقال: إنا إذا أبصرنا شيئا اتصل بطرفيه من العين خطان شعاعيان كساقي المثلث وصار عرض المرئي كالخط الثالث، أي قاعدة المثلث ثم يخرج من نقطة الناظر خط آخر إلى وسط المرئي قائم عليه يقسم المثلث الأول إلى مثلثين، وكل واحد منهما مثلث قائم الزاوية، وهذا يصلح أن يكون وترا لكل واحد من الزاويتين الحادتين الواقعتين على طرفي المثلث الأول الكبير، والخطان الطرفيان كل واحد منهما وتر للزاويتين القائمتين، ووتر القائمة أعظم من وتر الحادة بلا شك، فالخطان الطرفيان كل واحد منهما أطول من الخط الأوسط، فلم تكن أجزاء المرئي بالنسبة إلى الرائي متساوية في القرب والبعد، لأنا نقول لنفرض أن هذا التفاوت واقع بمقدار شبر فلو كان المانع من الرؤية هذا القدر من التفاوت في البعد لكنا إذا جعلنا المرئي أبعد مما كان عليه وقوله تعالى: النظر بمقدار شبر وجب أن لا نراه البتة، وليس كذلك فعلمنا أنه ليس السبب في عدم رؤية بعض الأجزاء ذلك القدر من التفاوت في البعد.
(١) ((شرح الأصول الخمسة)) (٢٥٣)، ((المغني في باب التوحيد والعدل)) (٤/ ٢١٢).