فإن قيل: لا يلزم من رؤيتنا جميع أجزائه أن نراه كبيرا؛ لأن اختلاف الرؤية بالنسبة إلى الصغر والكبر ناتج عن ضيق الزاوية الحاصلة في الناظر من الخطين المتصلين منه بطرفي المرئي وسعتها، ولهذا إذا قرب المرئي في الغاية أو بعد كذلك صارت الزاوية لسعتها في الغاية حال القرب، أو لضيقها في الغاية حال البعد كالمعدوم فانعدمت الرؤية حينئذ لعدم انطباع الصورة، وهذا الافتراض مبني على القول بأن الرؤية تحصل بانطباع صورة المرئي أو شبحه في جزء من الرطوبة الجليدية في العين.
قلنا: هذا ضعيف بناء على تركب الأجزاء التي تتجزأ إذ على هذا التقدير إن رأى الأجزاء كلها وجب أن يرى الجسم كما هو في الواقع سواء كان قريبا أو بعيدا لأن رؤية كل منها أو بعضها أصغر مما هو عليه توجب الانقسام فيما لا يتجزأ لثبوت ما هو أصغر منه ورؤية كل من الأجزاء أكبر مما هو عليه بمثل أو بأزيد منه توجب ألا يرى إلا ضعفا أو أكبر من ذلك، وهو باطل قطعا، ورؤيته أكبر بأقل من مثل توجب الانقسام، ورؤية بعضها على ما هو عليه بعضها أكبر بمثل توجب ترجيحا بلا مرجح فوجب أن يرى الكل على حاله، فلا تفاوت حينئذ بالصغر والكبر، فتعين أن يكون التفاوت بحسب رؤية بعض دون بعض.
ثانيا: إن من نظر إلى مجموع من التراب يراه وهو عبارة عن مجموع تلك الذوات والأجزاء الصغيرة وإدراك كل واحد من تلك الذوات والأجزاء إما أن يكون مشروطا بإدراك الآخر أو لا؟ فإن كان مشروطا فيلزم عليه الدور، وإن لم يكن مشروطا فحينئذ يكون إدراك كل واحد من تلك الذوات والأجزاء حالتي الاجتماع والانفراد على السوية وليس كذلك، لأنها لا ترى حال الانفراد، وحينئذ لا يكون الإدراك واجب الحصول عند حصول تلك الشرائط، وإما أن يكون إدراك بعضه مشروطا بإدراك الباقي ولا ينعكس، فهذا محال، ومع أنه محال فالمقصود حاصل، أما أنه محال فلأن الأجزاء متساوية فيكون هذا مفتقرا إلى ذلك مع أن ذلك غني عن هذا ترجيح من غير مرجح وهو محال، وأما أن المقصود حاصل، فلأن إدراك أحد تلك الأجزاء إذا كان غنيا عن إدراك الآخر كان حاله عند الاجتماع وعند الانفراد في صحة الإدراك على السوية، وحينئذ يعود المحذور، فهذان برهانان قويان في بيان أنه عند حصول هذه الشرائط فالإدراك غير واجب الحصول.
وقولهم: لو لم يجب الإدراك لجاز أن يكون بحضرتنا حملات وبوقات ونحن لا نراها ولا نسمعها.