للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشبهة الثالثة: يقول القاضي عبدالجبار: " ... إن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شفع لصاحب الكبيرة، فإما أن يشفع أو لا. إن لم يشفع لم يجز؛ لأنه يقدح بإكرامه. وإن شفع فيه لم يجز أيضاً؛ لأنا قد دللنا على أن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح، وأن المكلف لا يدخل الجنة تفضلاً" (١).

المناقشة:

قولكم: "وإن شفع فيه لم يجز ... " ينبني على أن المكلف لا يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، وإنما يدخلها بعمله، وأنه متى عمل عملاً صالحاً وجب على الله إدخاله الجنة، وإذا لم يعمل لم يجز أن يدخله الله إياها، وهذا القول باطل لما يلي: أولاً: أما كون الإنسان لا يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، فيبطله قوله تعالى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ ... الآية [فاطر: ٣٥]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لن ينجي أحدكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)). (٢) فإذا دخول الإنسان الجنة بفضل الله ورحمته (٣)، وإنما العمل سبب في تفضل الله على عبده بإدخاله الجنة. وأما بطلان الوجوب على الله، فلاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئاً.

وإذا ثبت أن الإنسان يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، وأنه سبحانه الفعال لما يريد، فلا يوجب عليه أحد شيئاً، فلا مانع أن يشفع الله نبيه في من شاء من عباده من أهل التوحيد المرتكبين للكبائر لتظاهر الأحاديث بثبوت الشفاعة لهم، كما بيناه في مقام سابق.

وإذا ثبت أن الله يشفع نبيه فيهم؛ بطل قولكم، "وإن لم يشفع فيه لم يجز ... " لأن الشفاعة قد ثبتت، فلا مكان لهذا الاحتمال. وعليه فتبطل شبهتكم هذه. والله أعلم.

الشبهة الرابعة: يقول القاضي عبدالجبار: "ما قولكم فيمن حلف ليفعل ما يستحق به الشفاعة؟ أليس يلزمه أن يرتكب الكبيرة ويصير من أهل الفسوق والعصيان" (٤).

المناقشة:

يقول الباقلاني: والجواب على هذه الشبهة من وجهين:

أحدهما: أنا نأمره بالتمسك والإيمان دون فعل الذنوب؛ لأن الشفاعة لا تنال بالذنوب، وإنما تنال بالإيمان دون الذنوب، وهذا مثل أن يشفعوا زيداً في ذنب صديقه في دار الدنيا إلى من ملك إسقاط ذلك، لا يقال: إنه نال ذلك بالذنب الذي أذنب، وإنما ناله بالصداقة المتقدمة لا نفس الذنب. ونأمره أيضاً بالطاعة حتى ينال بذلك شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الزيادة له من البر والنعيم، ونحو ذلك.

الثاني: أنا نعارضكم بمثل قولكم، فنقول لكم ما تقولون فيمن سمع قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: ٢٢٢]. فحلف ليفعلن فعلاً يجب عليه فيه التوبة والاستغفار ... فإن قالوا: نأمره بالطاعة وفعل الخير، قلنا لهم: هذا لا يصح، لأن الإنسان لا يجب عليه التوبة والاستغفار من فعل الخير بإجماع المسلمين.

وإن قلتم: نأمره بفعل المعاصي والذنوب حتى تجب عليه التوبة والاستغفار، فيتوب ويستغفر حتى يتخلص من يمينه، فقد استحللتم ما حرم الله وأمرتم بما لا يجوز لمسلم أن يأمر به. وإن قلتم: لا نأمره بفعل المعصية، ولكن إن ابتلي بشيء من ذلك قلنا له: قد فعلت ما وجب به عليك التوبة والاستغفار وزوال حكم اليمين. قلنا لكم: نحن أيضاً نقول: لمن حلف ليفعلن فعلاً يجوز أن يشفع له فيما يستحق عليه من العقاب شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. نقول له: تمسك بالطاعة والإيمان، فإن ابتليت بشيء من المعاصي، فقد خرجت من اليمين، ويجوز أن يشفع لك الرسول صلى الله عليه وسلم، لا أن نأمره بالمعصية بوجه من الوجوه (٥). انتهى كلام الباقلاني بتصرف. وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم.

المصدر:المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها - ص ٢٣٦


(١) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص٦٨٩).
(٢) رواه البخاري (٦٤٦٣) , ومسلم (٢٨١٦).
(٣) انظر ((المواقف)) (٨/ ٣٧٦).
(٤) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص٦٩٣).
(٥) ((الإنصاف)) (ص١٧٥ - ١٧٦)، بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>