للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى التسليم بأن هذه الآية في أهل الكبائر، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينقذ أحداً بنفسه، وبدون مشيئة الله وإذنه؛ بل لا يشفع إلا لمن ارتضى الله وأذن بالشفاعة له، وصاحب الكبيرة ممن ارتضى الله أن يشفع له؛ لأنه موحد كما بينا في مقام سابق. والله أعلم.

ثانياً: الشبهات العقلية:

من الشبهات العقلية التي تمسك بها المعتزلة في إنكار الشفاعة لأهل الكبائر ما يلي:

الشبهة الأولى: يقول القاضي عبدالجبار: "لقد دلت الدلائل على أن العقوبة تستحق على طريق الدوام، فكيف يخرج الفاسق من النار بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والحال ما تقدم؟! " (١).

المناقشة:

هذه الشبهة باطلة لما يلي: أولاً: أن الأدلة الدالة على دوام العقوبة عامة، وأدلة إثبات الشفاعة لأهل الكبائر خاصة، والخاص مقدم على العام، فوجب القطع بأن النصوص الدالة على الشفاعة مقدمة على العمومات الدالة على دوام العقوبة (٢)، وبهذا يزول الإشكال وتبطل هذه الشبهة.

ثانياً: هذه الشبهة تنبني على القول بتخليد الفاسق في النار، وقد سبق عرض شيء من الشبهات الواردة حول هذا عند الكلام على رأي المعتزلة في الوعيد، وإبطالها، فإذا بطل الأصل بطل الفرع، والله أعلم.

الشبهة الثانية: يقول الرازي: "واستدلت المعتزلة على إنكار الشفاعة لأهل الكبائر بوجوه ... إلى أن قال: وسابعها: أن الأمة مجمعة على أن ينبغي أن نرغب إلى الله تعالى في أن يجعلنا من أهل شفاعته عليه السلام، ويقولون في جملة أدعيتهم: "واجعلنا من أهل شفاعته" فلو كان المستحق للشفاعة هو الذي خرج من الدنيا مصراً على الكبائر؛ لكانوا قد رغبوا إلى الله تعالى في أن يختم لهم مصرين على الكبائر" (٣).ويقول القاضي عبدالجبار: " ... أليس أن الأمة اتفقت على قولهم: اللهم اجعلنا من أهل الشفاعة، فلو كان الأمر على ما ذكرتموه لكان يجب أن يكون هذا الدعاء دعاء لأن يجعلهم الله تعالى من الفساق، وذلك خلف" (٤).

المناقشة: يقول القرطبي - في معرض الرد على هذه الشبهة -: "إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب، ولا قائم بكل ما افترض الله عليه، بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص، فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة. قال صلى الله عليه وسلم: ((سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل أحداً الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)) (٥) (٦).ويقول الرازي: "أما قول المسلمين: اللهم اجعلنا من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فالجواب عنه: إن عندنا تأثير الشفاعة في جلب أمر مطلوب، وأعني به القدر المشترك بين جلب المنافع الزائدة على قدر الاستحقاق، ودفع المضار المستحقة على المعاصي؛ وذلك القدر المشترك لا يتوقف على كون العبد عاصياً، فاندفع السؤال" (٧).

من رد القرطبي والرازي، يظهر ما يلي:-

أولاً: أن طلب المسلمين الشفاعة لاعتقادهم عدم السلام من الذنوب.

ثانياً: أنه لا يزم من طلب المسلم الشفاعة الدعاء بالختم للإنسان مصراً على الكبائر؛ لأن تأثير الشفاعة إنما هو في جلب أمر مطلوب، وهو القدر المشترك بين جلب المنافع الزائدة على قدر الاستحقاق ودفع المضار المستحقة على المعاصي، وبهذا يزول الإشكال، وتبطل الشبهة.


(١) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص٦٨٩).
(٢) ((الأربعين في أصول الدين)) (ص٤٠٠، ٤٢٣)، بتصرف.
(٣) ((التفسير الكبير)) (٣/ ٦٣، ٦٤، ٦٥).
(٤) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص٦٩٢).
(٥) رواه البخاري (٦٤٦٧) , ومسلم (٢٨١٨).
(٦) ((تفسير القرطبي)) (١/ ٣٨٠، ٣٨١).
(٧) ((التفسير الكبير)) (٣/ ٧٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>