للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المناقشة: يقال لهم: إن معنى الآية: ولا يشفعون إلا لمن رضي الله سبحانه وتعالى أن يشفعوا له وأذن فيه (١)، ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون. يقول ابن عباس والضحاك: إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى أي: لمن قال: لا إله إلا الله (٢). ويدل على أن الآية في الموحدين قوله تعالى: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم: ٨٧]. يقول المفسرون: إلا من قال لا إله إلا الله.

فإن قالوا: المرتضى: هو التائب الذي اتخذ عنه الله عهداً بالإنابة إليه؛ بدليل أن الملائكة استغفروا لهم. قال تعالى: ... فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر: ٧]. وكذا شفاعة الأنبياء - عليهم السلام - إنما هي لأهل التوبة دون أهل الكبائر. قلنا: عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة، فإذا قبل الله توبة المذنب، فلا يحتاج إلى الشفاعة، ولا إلى الاستغفار. وأيضاً: فقد أجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله تعالى: ... فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا ... الآية من الشرك ... وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ... الآية [غافر: ٧] سبيل المؤمنين سألوا الله أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم، كما قال تعالى: ... وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... الآية [النساء: ٤٨].

وعلى ذلك؛ فالآية ليس فيها نفي للشفاعة، وإنما حصر لها الموحدين، وصاحب الكبيرة مما سوى الشرك موحد، وعليه فيبطل استدلالكم بالآية. والله أعلم.

الشبهة الرابعة:

قال تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ [الزمر: ١٩].

وجه الدلالة: يقول القاضي عبدالجبار: " ... الآية تدل على أن من أخبر الله تعالى أنه يعذبه لا يخرج من النار، فإذا صح أنه أخبر بذلك في الفجار والفساق، فيجب ذلك فيهم ... ويدل أيضاً: على أنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع لهم؛ لأنه لو شفع لهم لوجب أن يكون منقذاَ من النار، وقد نفى الله تعالى عنه ذلك" (٣).

المناقشة: يقال لهم: إن الآية في أهل الكفر والضلال، وليست في أهل التوحيد والإيمان. يقول الطبري: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ... الآية [الزمر:١٩]. أفمن وجبت عليه كلمة العذاب في سابق علم ربك يا محمد بكفره ... " (٤). وكلمة العذاب: هي قوله تعالى لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٥].فإذا كانت الآية في الكافر، فلا دلالة فيها على نفي الشفاعة عن صاحب الكبيرة، لأنه ليس ممن حقت عليه كلمة العذاب، وكيف يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب مع قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... الآية [النساء: ٤٨]. وقوله تعالى: ... إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: ٥٣]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار)) (٥) (٦). وغيرها من النصوص الدالة على الوعد بالمغفرة لمن مات لا يشرك بالله شيئاً.

وصاحب الكبيرة ليس بمشرك. فإذاً فالآية ليست في صاحب الكبيرة، وعليه فيبطل الاستدلال بها على نفي الشفاعة لصاحب الكبيرة.


(١) ((التسهيل)) (٣/ ٥٣)، و ((تفسير أبي السعود)) (٦/ ٦٤)، و ((تفسير القرطبي)) (١١/ ٣٨٠، ٣٨١)، بتصرف.
(٢) ((التفسير الكبير)) (٢٢/ ١٦٠).
(٣) ((متشابه القرآن)) (٢/ ٥٩٢).
(٤) ((تفسير الطبري)) (٢٣/ ١٣٣).
(٥) رواه مسلم (٢٩) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(٦) انظر ((التفسير الكبير)) (٢/ ٢٦٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>