للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومثل هذه الآيات كثير، فإذا ثبت أن الإيمان يذهب بعضه ويبقى بعضه وأنه يزيد وينقص بطل قولهم: إن الفسق يخرج من الإيمان؛ وعلى ذلك فالفاسق مؤمن ناقص الإيمان وليس في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان كما تدعون. ونقول أيضاً: ما دام مرتكب الكبيرة معه من الإيمان شيء، ولو إيماناً ناقصاً، فإنه لا يخلد في النار؛ بل يعذب على قدر ذنبه ثم يخرج من النار ويدخل الجنة لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... الآية [النساء: ٤٨]. ولقوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: ٧]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (( ... يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ... الحديث)) (١).

وقد سبق عرض شيء من شبهات المعتزلة في قولهم بتخليد صاحب الكبيرة في النار مع مناقشتها عند الكلام على أصل الوعد والوعيد. فإذا قولهم بتخليد صاحب الكبيرة في النار باطل، وعليه فتبطل هذه الشبهة. والله أعلم.

الشبهة الثانية:

يقول الخياط: "إن واصل بن عطاء لم يحدث قولاً لم تكن الأمة تقول به؛ إذ أنه وجد الأمة مجمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور مختلفة فيما سوى ذلك من أسمائهم، فأخذ بما أجمعوا عليه ... وتفسير ذلك: أن الخوارج وأصحاب الحسن كلهم مجمعون والمرجئة على أن صاحب الكبيرة فاسق فاجر،، ثم تفردت الخوارج فقالت: هو مع فسقه وفجوره كافر، وقالت المرجئة ... هو مع فسقه وفجوره مؤمن، وقال الحسن ومن تابعه: هو مع فسقه وفجوره منافق. فقال لهم واصل بن عطاء: قد أجمعتم على أن سيتم صاحب الكبيرة بالفسق والفجور، فهو اسم له صحيح بإجماعكم وقد نطق القرآن به في آية القاذف وغيرها من القرآن، فوجب تسميته بذلك وما تفرد به كل فريق منكم من الأسماء، فدعوى لا تقبل منه إلا بينة من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" (٢).

المناقشة:

والجواب على هذه الشبهة كما يلي:١ - أن مرتكب الكبيرة مؤمن ناقص الإيمان، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته كما بيناه عند الرد على الشبهة الأولى. ثم إن إيمانه متفق عليه بين السلف، فإذا قولهم أن إيمانه مختلف فيه باطل (٣).٢ - أن في قولهم بالمنزلة بين المنزلتين ترك للمتفق عليه بين السلف – ومنهم الحسن -؛ لأن النفاق كفر إن أظهره صاحبه، وإن لم يظهره، فيعامل معاملة المسلمين، إضافة إلى ذلك: أنه نقل عنه الرجوع عن هذا القول إلى المذهب الحق والمتفق عليه: وهو أن المكلف إما مؤمن أو كافر، ولا واسطة بينهما وأخذ بما لم يقل به أحد فضلاً عن الاتفاق؛ فإذاً قولهم بالمنزلة بين المنزلتين إحداث للقول المخالف لما أجمع عليه السلف (٤)؛ فيكون باطلاً، وبذلك تبطل هذه الشبهة والله أعلم.

ثالثا: مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة:

لمعرفة مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة؛ لابد أن نسوق شيئاً من أقوال أئمة السلف في ذلك، فنقول وبالله التوفيق. يقول ابن تيمية – رحمه الله -: "ومذهب أهل السنة والجماعة أن فساق أهل الملة ليسوا مخلدين في النار، كما قالت الخوارج والمعتزلة، وليسوا كاملين في الدين والإيمان والطاعة؛ بل لهم حسنات وسيئات، ويستحقون بهذا العقاب وبهذا الثواب ... " (٥).


(١) رواه البخاري (٢٢) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٢) ((الانتصار)) للخياط (ص١١٨).
(٣) ((المواقف في علم الكلام)) (٨/ ٣٣٩)، بتصرف.
(٤) ((شرح العقائد)) (١/ ١٧٠)، بتصرف.
(٥) ((الفتاوى)) (٧/ ٦٧٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>