للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد تختلف آراء المعتزلة في تحديد معنى الصغيرة والكبيرة، وتتسع مسافة الخلاف بينهم، لكن ما تبنوه من آراء هو موضع نظرنا، إذ أنها لا تحدد لنا تحديدا واضحا الفرق بين الأمرين، لا سيما ما ذهب إليه القاضي عبد الجبار – وإن كان هو الأكثر انسجاما مع مذهب القوم – لأن الثواب والعقاب مما لا يعلم مقداره إلا الله سبحانه وتعالى، فاختلافه قلة وكثرة من شخص لآخر أمر خفي، لا يمكننا إدراكه، على أن الضابط الذي ذكره القاضي عبد الجبار على أنه تحقيق للمذهب، مناقض لما هو مشهور من مذهب المعتزلة الذي سيأتي بعد من أن ثواب الطاعات محبط لا وزن له مع ارتكاب الإنسان للكبيرة، لأن صاحبها مخلد في النار، فأين الثواب الذي يمكن أن يقاس مع العقاب ويحدد بموجبه كل من الصغيرة والكبيرة؟

غير أن الأهم من ذلك كله أن المعتزلة مهما اختلفوا في تحديد الضابط مقرون بانقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، فما حكم كل منهما عندهم؟

أما الصغائر فقد ذكر أبو الحسن الأشعري أنهم لم يتفقوا أيضا على قول واحد بشأنها بل دار بينهم الخلاف في ذلك على أقوال ثلاثة:

١ - أن الله سبحانه يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر تفضلا.

٢ - يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر باستحقاق. ٣ - أن الله لا يغفر الصغائر إلا بالتوبة (١).

فهذه أقوال ثلاثة عند المعتزلة، اثنان منها قالت بالغفران، والخلاف بينهما في الاستحقاق والتفضل، والاستحقاق كما هو واضح فيه تحكم على الله سبحانه – وذلك غير لائق بحال. ولكن من مبادئ المعتزلة المشهورة عنهم قولهم بوجوب الصلاح والأصلح، ولا يخفى ما في هذا المبدأ من جسارة وعدم تأدب مع الله سبحانه وتعالى. أما القول الثالث فإنه يجعل الصغيرة بمنزلة الكبيرة في عدم الغفران إلا بالتوبة وهذا لم يقل به أحد، ومخالف أيضا لما عليه المعتزلة أنفسهم من الفرق بين الصغيرة والكبيرة من حيث المعنى والاعتبار.

وعلى كل حال فالأهم من ذلك كله هو مرتكب الذنب الكبير، فماذا يقول القوم في حكمه؟

هذه المسألة تسمى عند مؤرخي الفرق والمعتزلة بالأسماء والأحكام، لأنها تبحث في صفة مرتكب الكبيرة وحكمه. يقول الدكتور عبد الكريم عثمان في الكلام على هذه المسألة: وقد أثار تحديد مكان مرتكب الكبيرة وحكمه خلافا شديدا بين المسلمين، وجعله بعض مؤرخي الفرق سببا مباشرا لظهور مذهب الاعتزال. فقد قالت الخوارج إن صاحب الكبيرة كافر، وذهب المرجئة إلى أنه مؤمن، وقرر الحسن البصري أنه منافق، أما واصل فقد أعلن أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنا ولا كافرا، ولا منافقا، بل هو فاسق، أو في منزلة بين المنزلتين: الإيمان والكفر، ومن هنا أطلق على هذا الأصل عند المعتزلة اسم المنزلة بين المنزلتين، أو الأسماء والأحكام (٢).فالمعتزلة يرون أن مرتكب الكبيرة، لا مؤمن ولا كافر، بل له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين، فلا يكون اسمه اسم الكافر، ولا اسمه اسم المؤمن، وإنما يسمى فاسقا وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث وهذا الحكم هو ما يسمى بالمنزلة بين المنزلتين. فإن صاحب الكبيرة عندهم له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلته منزلة الكافر، ولا منزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما (٣).


(١) ((مقالات الإسلاميين)) (١/ ٣٣٢).
(٢) ((نظرية التكليف)) (٤٩٤).
(٣) ((شرح الأصول الخمسة)) (٦٩٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>