للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمراد من هذا بيان الحكم الدنيوي لمرتكب الكبيرة، ففيه أن مرتكبها يسلب منه اسم الإيمان بالكلية، لأنه بارتكابها يزول ما معه من إيمان، فلم يعد مؤمنا غير أنهم في هذا الحكم الدنيوي لم يبلغوا به درجة الكافر فلم يجوزوا تسميته كافرا، كما لم يجوزوا تسميته مؤمنا، بل جعلوا له منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان وهي الفسق. وقد برزت هذه المقالة أول ما برزت على يد واصل بن عطاء الغزال أحد زعماء المعتزلة، بل زعيمهم الأول والذي كان تلميذا للحسن البصري، المشتهر بقوله بأن مرتكب الكبيرة منافق. وقد بينها الشهرستاني في (الملل والنحل) بقوله: ووجه تقريره لهذه المسألة أنه – الإيمان واصل بن عطاء – قال: إن الإيمان عبارة عن خصال خير، إذا اجتمعت سمي المرء مؤمنا، وهو اسم مدح، والفاسق لم يستمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح، فلا يسمى مؤمنا، وليس هو بكافر مطلقا أيضا، لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها (١).

وكل هذا ليس إلا بحثا في التسمية والمعاملة الدنيوية إذ أنهم ذهبوا هذا المذهب ليؤدي لهم غرضين في آن واحد.

الغرض الأول: هو القول بأن مرتكب الكبيرة يعامل في الدنيا كما يعامل بقية المسلمين فتجوز مناكحته، وموارثته، ودفنه في مقابر المسلمين، وغير ذلك من الأحكام الجارية عليه في الدنيا.

الغرض الثاني: هو القول بالتأبيد في النار - على ما سيأتي بعد – فإنهم لم يوصلوه في الوصف الدنيوي إلى درجة الكفر، حتى تجري عليه تلك الأحكام الدنيوية، وعز عليهم أن يعطوه اسم الإيمان، لأنه في نظرهم لا بد وأن يدخل النار ليجازى بما عمل من السيئات، وداخل النار عندهم لا يخرج منها، والمؤمن لا يمكن أن يدخل النار في نظرهم. ويزيد المسألة وضوحا ما ذكره القاضي عبد الجبار من استدلال على هذا المعتقد حيث قال ما معناه: والذي يدل على الفصل الأول، وهو الكلام في أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا، هو ما قد ثبت من أنه يستحق بارتكاب الكبيرة الذم واللعن والاستخفاف والإهانة، وثبت أن اسم المؤمن صار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم والموالاة، فإذ قد ثبت هذان الأصلان، فلا إشكال في أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى مؤمنا (٢). ثم ذكر بعد ذلك الأدلة على أن اسم المؤمن صار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: ١] وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: ٢]. إلى غير ذلك من الآيات. أما الدليل على أن مرتكب الكبيرة لا يسمى كافرا فهو أنه جعل الكافر في الشرع اسما لمن يستحق العقاب العظيم، ويختص بأحكام مخصوصة نحو المنع من المناكحة والموارثة، والدفن في مقابر المسلمين، إذا ثبت هذا ومعلوم أن صاحب الكبيرة ممن لا يستحق العقاب العظيم ولا تجري عليه هذه الأحكام، فلم يجز أن يسمى كافرا (٣). ومن أدلة المعتزلة أيضا على قولهم بالمنزلة بين المنزلتين ما ذكره عضد الدين الأيجي في المواقف حيث ذكر احتجاجهم على ذلك بوجهين:


(١) ((الملل والنحل)) تحقيق محمد كيلاني (١/ ٤٨).
(٢) ((شرح الأصول الخمسة)) (٧٠١).
(٣) ((شرح الأصول الخمسة)) (٧١٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>