للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحدهما: ما تقدم من أن الإيمان عبارة عن الطاعات، وأن الفاسق يعامل في الدنيا معاملة سائر المسلمين. أما الوجه الثاني: فهو ما قاله واصل بن عطاء لعمرو بن عبيد، فرجع عمرو إلى مذهبه وهو أن فسقه معلوم وفاقا، وإيمانه مختلف فيه، لأن الأمة مجمعة على أن صاحب الكبيرة فاسق واختلفوا في كونه مؤمنا أو كافرا فنترك المختلف فيه ونأخذ بالمتفق عليه (١).وهذا هو الدليل الأساسي الذي يستدل به القوم، ويوضحه القاسم الرسي بقوله:. . والأمة مجمعة على أن من أتى كبيرة، أو ترك طاعة فريضة كالصلاة والزكاة والصيام من أهل الملة فهو فاسق، وهي مختلفة في غير ذلك من أسمائه. قال بعضهم: هو مشرك فاسق منافق، فكلهم قد أقر بأنه فاسق كافر، وقال بعضهم: فاسق منافق فكلهم قد أقر بأنه فاسق، واختلفوا في غير ذلك من أسمائه. فالحق ما أجمعوا عليه من تسميتهم إياه بالفسق، والباطل ما اختلفوا فيه، ففي إجماعهم الحجة والبرهان (٢).وهذا كله – كما سبق وأن قلت – لا يعدو كونه كلاما في حكم دنيوي وهو القدر الذي يختلفون فيه مع الخوارج، حيث قالوا بكفره ابتداء، وخروجه من ملة الإسلام – أما الحكم الأخروي لمرتكب الكبيرة عند المعتزلة: فعندهم أن من استوعب عمرا في طاعة الله سبحانه وتعالى، ثم قارف كبيرة واحدة، ولم يوفق للتوبة عنها، وما على هذه الحال، فهو مخلد في النار مع المشركين الذين لم يؤمنوا ولم يأتوا بحسنة قط (٣). وهذا هو بعينه رأي الزيدية الذين تبنوا أصول الاعتزال، وعنهم يقول الشهرستاني: أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالقذة، ويعظمون أئمة الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة أهل البيت (٤).

فعند هؤلاء جميعا أن الإنسان مهما عمل من الخيرات، ومهما جاهد في سبيل إرضاء ربه، من فعل للواجبات، واجتناب للمحرمات، وكبح لجماح النفس وصد لشهواتها، فإن جميع طاعاته هذه تذهب هباء عندما يزل في يوم من الأيام فيرتكب كبيرة، لأن هذه المعصية تحبط جميع تلك الأعمال الخيرة، فلا يبقى لها وزن، ولا يعود لها اعتبار، لأن مرتكب الكبيرة إذا لم يقلع عنها بتوبة جازمة نصوح لا عودة بعدها، فلا بد وأن يدخل النار خالدا مخلدا فيها، لأن داخل النار عندهم لا يخرج منها أبد الآبدين. وهذا المذهب في مرتكب الكبيرة تذكره كتب الفرق على أنه أصل من أصول المعتزلة التي يجمعون عليها، إلا أن إمام الحرمين الجويني ذكر أن معتزلة البصرة، وبعض البغداديين واقفية في وعيد مرتكب الكبيرة، إذ قالوا بأن من مات من المؤمنين على إصراره على المعاصي، لا يقطع عليه بعقاب، بل أمره مفوض إلى ربه تعالى، فإن عاقبه فذلك بعدله، وإن تجاوز عنه فذلك بفضله ورحمته، فلا يستنكر ذلك عقلا وشرعا (٥).

وعلى كل حال، فهذا أصل من أصول المعتزلة سواء أجمعوا عليه أم لم يجمعوا فهو المذهب المشهور عنهم، وأي خلاف فيه من قبلهم فإنه لا ينقض المذهب، لا سيما وأنهم قد اشتهروا بتبنيه والاستدلال له. ومن رجع منهم عن القول به فإنما كان ذلك منه لأنه في نظري ناشد للحقيقة غير متبع ولا مقلد، فلا يستغرب ذلك، إلا أنه كما قلت هو المذهب المقترن باسم المعتزلة عند ذكرهم دائما.

أما أدلتهم على قولهم بخلود مرتكب الكبيرة في النار، فقد استدلوا بأدلة عقلية ونقلية:

فأما الأدلة العقلية:


(١) ((المواقف بشرح الجرجاني)) (٨/ ٣٣٨).
(٢) ((كتاب العدل والتوحيد)) تحقيق عمارة (١/ ١٣٠).
(٣) ((شرح الأصول الخمسة)) (٦٦٦).
(٤) ((الملل والنحل)) تحقيق محمد كيلاني (١/ ١٦٢).
(٥) ((الإرشاد)) لإمام الحرمين الجويني تحقيق محمد موسى، وعلي عبد المنعم (٣٩٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>