للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمنها ما ذكره القاسم الرسي من أن أحدا لا يقدر أن يؤدي كل ما استحق الله تبارك وتعالى من عباده، من شكر نعمته وإحسانه، بالكمال والتمام، حتى لا يبقى مما يحق لله جل ثناؤه شيئا إلا أداه، هيهات فكيف وهو يقول تبارك وتعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: ١٨] فكيف يؤدي شكر ما لا يحصى؟! ولم يفترض على خلقه ذلك، ولا سأل كل ما له عليهم مما يستحق لديهم، لعلمه بضعفهم وأن في بعض ذلك استفراغ جهدهم، وما تعجز عنه أنفسهم وأنهم لا يقدرون على ذلك ويقصرون عن بلوغ ذلك. . وغفر لهم صغير ذنوبهم كله إذا اجتنبوا كبيرة رحمة بهم، ونظرا لهم، فأما من رجا الرحمة وهو مقيم على الكبيرة فقد وضع الرجاء في غير موضعه، واغتر بربه واستهزأ بنفسه، وخدعه وغره من لا دين له، إلا أن يتوب فيغفر له بالتوبة، فأما الإقامة على الكبائر فلا. . وذلك أن للجنة والنار طريقان فطريق الجنة طاعته المجردة عن الكبائر من معاصي الله، وطريق النار معصية الله، وإن لم تكن مجردة من بعض طاعات الله، لأننا قد نجد العبد يؤمن بكتاب الله كله، ويكفر ببعضه فلا يكون مؤمنا، ولا بما آمن به من النار ناجيا. يصدق ذلك قول الله عز وجل: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: ٨٥] فلم يسموا بما آمنوا به مؤمنين، بل سموا بما كفروا به منه- لا كله- كافرين. وعلى هذه الطريق فيمن لم يكفر من الفاسقين أهل الكبائر العاصين، فمن كان على المعصية الكبيرة مقيما فهو على طريق النار، فكيف يرجو البلوغ إلى الجنة وهو يسلك ذلك الطريق، كرجل توجه إلى طريق خراسان فسلكه وهو يقول: أنا أرجو أن أبلغ الشام، فهذا من وضع الرجاء في غير موضعه (١).

وملخص الدليل العقلي السابق أن الله تبارك وتعالى له نعم على عباده لا تحصى ومهما عمل الإنسان لا يستطيع الوفاء بشكرها، إذ أن ذلك يتطلب منه استيفاء كل حق لله عليه. وقد علم الله من عباده عجزهم وضعفهم عن الوفاء بجميع ذلك، لذلك اكتفي منهم بالقليل بعد أن أعطاهم الكثير، بل وعفا عن صغائر ذنوبهم، وهذه منة عظيمة أخرى منه – تبارك وتعالى – فعلى الإنسان إذا الإتيان بهذا القليل الذي كلف به دون تفريط، وإذا قصر فيه بارتكاب الكبائر فعلا لمحرم، أو تركا لواجب فهو من أهل النار لا محالة، لأن الله تجاوز له عن الكثير لم يكلفه به، فإذا قصر في ذلك القليل المطلوب منه فهو ممن سلك طريق النار، والطريق إلى الشيء المعين توصل إليه لا إلى ما يوجد في جهة معاكسة، وطريق النار المعصية وهذه لا يمكن أن يصل عن طريقها إلى الجنة، كما أن طريق الجنة الطاعة، وهذه أيضا لا يمكن أن توصل بصاحبها إلى النار، وضرب مثلا بسالك طريق خراسان، وهو يقصد الوصول إلى الشام. فهذا دليل عقلي على أن الفاسق مصيره إلى النار، وأنه يفعل به ما يستحقه. وهناك دليل عقلي آخر ذكره القاضي عبد الجبار وهذا الدليل هو أن الله أمر ونهى، أي كلف الإنسان، ووعده وتوعده، وكل خلف بالوعد أو الوعيد نوع من الكذب لا يجوز على الله. ولو ثبت أنه يخلف وعيده ولا يعاقب الفاسقين لكان في ذلك إغراء له على فعل القبيح، إذ أن للمكلف أن يعصي ويتجاوز حدود الله، وهو مطمئن إلى أنه سيغفر له (٢).

أما الأدلة السمعية:


(١) ((العدل والتوحيد)) (١/ ١٢٣).
(٢) ((شرح الأصول الخمسة)) (٦٥٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>