للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقد استدلوا بعموم الآيات الواردة في الوعيد، ومن هذه الآيات التي هي مناط استدلالهم قوله تعالى: وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء: ١٤]. ووجه الاستدلال: أن الله تبارك وتعالى أخبر أن العصاة يعذبون بالنار ويخلدون فيها، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر جميعا، فيجب حمله عليهما، لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينه، فلما لم يبينه دل على ما ذكرناه (١). ومن ذلك قوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: ٩٣]. ووجه الاستدلال: هو أنه تعالى يبين أن من يقتل مؤمنا عمدا جازاه وعاقبه وغضب عليه ولعنه، وفي ذلك ما قلناه (٢)، أي أن ذلك يكون على سبيل الدوام كما هو مصرح بذكر الخلود في الآية. ومما استدل به المعتزلة أيضا قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف: ٧٤]. ووجه الاستدلال: أن المجرم اسم يتناول الكافر والفاسق جميعا فيجب أن يكونا مرادين بالآية، معنيين بالنار، لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينه، فلما لم يبينه دل على أنه أرادهما جميعا (٣).هذه بعض أدلة المعتزلة من القرآن الكريم على قولهم بتخليد مرتكب الكبيرة في النار. يقول القاضي عبد الجبار بعد ذكره لهذه الآية: فإنها كما تدل على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة، تدل على أنه يخلد، إذ ما من آية من هذه الآيات التي مرت إلا وفيها ذكر الخلود والتأبيد، أو ما يجري مجراهما (٤).ثم ذكر بعد ذلك طريقة أخرى للاستدلال على هذا المعتقد حيث قال: وهنا طريقة أخرى مركبة من السمع، وتحريرها: هو أن العاصي لا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يعفى عنه، أو لا يعفى عنه، فإن لم يعف عنه فقد بقي في النار خالدا، وهو الذي نقوله. وإن عفي عنه فلا يخلو، إما أن يدخل الجنة أو لا، فإن لم يدخل الجنة لم يصح، لأنه لا دار بين الجنة والنار، فإذا لم يكن في النار وجب أن يكون في الجنة لا محالة، وإذا دخل الجنة فلا يخلو إما أن يدخلها مثابا أو متفضلا عليه ولا يجوز أن يدخل الجنة متفضلا عليه، لأن الأمة اتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة فلا بد أن يكون حاله متميزا عن حال الولدين المخلدين وعن حال الأطفال والمجانين، ولا يجوز أن يدخل الجنة مثابا، لأنه غير مستحق، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح (٥).

وغرضه من هذا الكلام هو القول بأن الفاسق لا يجوز على الله تعالى أن يعفو عنه ويدخله الجنة، لأن دخوله الجنة لا يكون إلا عن ثواب لا عن تفضل من الله سبحانه، فالجنة عوض لازم للإنسان عن أعمال الخير إذا لم يشبها كبائر، والفاسق لا ثواب له، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح على الله تعالى، والحسن والقبح كما هو معروف أحد أصول المعتزلة التي يسيرون عليها في معتقداتهم، وإذا ثبت هذا فلا بد من دخول الفاسق النار خالدا، ولا يجوز على الله تعالى أن يعفو عنه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأرى لزاما علي قبل أن أختم الكلام عن مذهب المعتزلة بشأن مرتكب الكبيرة أن أنبه هنا إلى أن الدكتور عبد الكريم عثمان قد ذكر في كتابه نظرية التكليف أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد وافق المعتزلة على رأيهم في وجوب إنفاذ الوعد والوعيد وتخليد مرتكب الكبيرة في النار (٦).وهذا الكلام فيه مكابرة للواقع ومخالفة للحقيقة الظاهرة الواضحة التي قد يكون الاستدلال عليها من العبث بمكان فموقف ابن تيمية – رحمه الله – واضح جلي لا غموض فيه ولا شبهة وهو من هو بالنسبة لمذهب السلف الصحيح فقد قرره ودافع عنه وانتصر له وهو المذهب الغني عن الإعادة والبيان ولم يقل أحد سوى الدكتور عبد الكريم عثمان أن ابن تيمية، قال بأنه يجب على الله إثابة المطيع، بل ابن تيمية يقول عن الله يثيب المطيع تفضلا منه ونحن لم نوجب ذلك عليه بل أوجبه سبحانه على نفسه. أما عقاب العصاة فإن الله أوعدهم بالعقاب ورحمته وسعت كل شيء فقد يتخلف الوعيد بعفوه سبحانه أما إذا عاقب فإنه لا يخلد لأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان (٧). هذا هو بعينه مذهب السلف، والقدح في ابن تيمية الذي نذر نفسه للدفاع عن الحق الذي يسنده الدليل، يعتبر قدحا في أهل الحق من السنة والجماعة وقد تقدم إيضاح مذهبهم في هذه المسألة.

المصدر:الإيمان بين السلف والمتكلمين لأحمد الغامدي – ص ١٣٣


(١) ((شرح الأصول الخمسة)) (٦٥٧).
(٢) ((شرح الأصول الخمسة)) (٦٦٠).
(٣) ((شرح الأصول الخمسة)) (٦٦٠).
(٤) ((شرح الأصول الخمسة)) (٦٦٦).
(٥) ((شرح الأصول الخمسة)) (٦٦٦).
(٦) ((كتاب نظرية التكليف)) (٤٧٦).
(٧) ((منهاج السنة النبوية)) (١/ ٢٨٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>