للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أي: وجدوني بحبكم، أو حكموا عليَّ به (١).قال ابن قتيبة: "وذهب أهل القدر في قول الله – تعالى -: يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء [النحل: ٩٣] إلى أنه على جهة التسمية، والحكم عليهم بالضلالة، ولهم بالهداية، وقال فريق منهم: يضلهم: ينسبهم إلى الضلالة، ويهديهم: يبين لهم ويرشدهم، فخالفوا بين الحكمين، ونحن لا نعرف في اللغة: أفعلت الرجل: نسبته، وإنما يقال إذا أردت هذا المعنى: فعلت، تقول: شجعت الرجل، وجبنته، وسرقته، وخطأته، وكفرته، وفسقته، وفجرته، ولحنته ... ولا يقال في شيء من هذا كله: أفعلته، وأنت تريد نسبته إلى ذلك" (٢).وقال أبو بكر ابن الأنباري: "هذا التأويل فاسد؛ لأن العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا: ضلل يضلل، واحتجاجهم ببيت الكميت باطل؛ لأنه لا يلزم من قولنا: "أكفر" في الحكم صحة قولنا: "أضل"، وليس كل موضع صح فيه "فعل" صح "أفعال ألا ترى أنه يجوز أن يقال: كسره، ولا يجوز أن يقال: أكسره، بل يجب فيه الرجوع إلى السماع" (٣).وقال ابن قيم الجوزية: "وأما تحريفهم هذه النصوص وأمثالها بأن المعنى ألفاهم، ووجدهم، ففي أي لسان وأي لغة وجدتم "هديت الرجل" إذا وجدته مهتدياً، أو ختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة: وجده كذلك؟ وهل هذا إلا افتراء محض على القرآن واللغة؟ فإن قالوا: نحن لم نقل هذا في نحو ذلك، وإنما قلناه في نحو أضله الله، أي وجده ضالاً، كما يقال: أحمدت الرجل، وأبخلته، وأجبته، إذا وجدته كذلك، أو نسبته إليه، فيقال لفرقة التحريف: هذا إنما ورد في ألفاظ معدودة نادرة، وإلا فوضع هذا البناء على أنك فعلت ذلك به، ولا سيما إذا كانت الهمزة للتعدية من الثلاثي كقام وأقمته، وقعد وأقعدته، وذهب وأذهبته، وسمع وأسمعته، ونام وأنمته، وكذا ضل وأضله الله، وأسعده وأشقاه، وأعطاه وأخزاه، وأماته وأحياه، وأزاغ قلبه، وأقامه إلى طاعته، وأيقظه من غلفته، وأراه آياته، وأنزله منزلاً مباركاً، وأسكنه جنته، إلى أضعاف ذلك، هل تجد فيها لفظاً واحداً معناه أنه وحده كذلك؟ تعالى الله عما يقول المحرفون. ثم انظر في كتاب: (فعل وأفعال) هل تظفر فيه بأفعلته بمعنى وجدته مع سعة الباب إلا في الحرفين أو الثلاثة نقلاً عن أهل اللغة؟ ثم انظر هل قال أحد من الأولين والآخرين من أهل اللغة أن العرب وضعت أضله الله، وهداه، وختم على سمعه وقلبه، وأزاغ قلبه، وصرفه عن طاعته، ونحو ذلك لمعنى وجده كذلك؟! ولما أراد سبحانه الإبانة عن هذا المعنى قال: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: ٧]، ولم يقل: وأضلك، وقال في حق من خالف الرسول، وكفر بما جاء به: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية: ٢٣]، ولم يقل: ووجده الله ضالاً" (٤).والقاعدة الغالبة في العربية: أن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، والاختلاف في الحركات يؤدي إلى الاختلاف في المعنى (٥)، فحمل "أفعل" على "فعل" مخالف للعربية.


(١) انظر: ((مفاتيح الغيب)) (٢/ ١٣٧ - ١٤١)، و ((اللباب في علوم الكتاب)) (١٠/ ٢٢٥).
(٢) ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: ١٢٣ - ١٢٤)، وانظر: المزيد في ((التفسير اللغوي للقرآن الكريم)) (ص: ٥٥٠ - ٥٥٥).
(٣) ((مفاتيح الغيب)) (١٦/ ٢١٢ - ٢١٣)، و ((اللباب في علوم الكتاب)) (١٠/ ٢٢٥) نقلاً عن ابن الأنباري، ولم أقف على هذه العبارة في كتبه الموجودة.
(٤) ((شفاء العليل)) (ص: ١٧٧) ط دار التراث، وانظر أيضاً منها (ص: ١٣٩).
(٥) انظر: ((الفروق اللغوية)) (ص: ١٥)، و ((المثل السائر)) لابن الأثير (٢/ ٤١)، و ((مجموع الفتاوى)) (٢٦/ ٢٦٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>