للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا أيضاً باب مشهور لدى المعتزلة، تمكنوا خلاله من التحكم في معاني النصوص الشرعية، وتوجيهها حسب الطلب الاعتقادي لديهم، بداعي المجاز والتشبيه، والكناية، والاستعارة، والمبالغة، والتجانس، ونحو ذلك. ويعتبر الأخفش والجاحظ أول من افتتح هذا الباب، فأولا آيات الصفات بداعي المجاز، وتصرفا في ذلك تصرفاً عجيباً فراراً من إثبات أي صفة للمولى عز وجل (١).ثم تتابع عليه بعده لغويو المعتزلة كالرماني وغيره واشتهر فيما بينهم، حتى عقد ابن جني في الخصائص بابا سماه "باب ما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية"، فذكر فيه جملة من الآيات القرآنية الدالة على بعض الصفات الإلهية، وأولها بالمجاز بعد أن تهكم على أهل السنة والجماعة، ووصمهم بالتشبيه، وقلة الفهم للغة العربية، ثم قال: "وطريق ذلك أن هذه اللغة أكثرها جار على المجاز، وقلما يخرج الشيء منها على الحقيقة ... ، فلما كانت كذلك، وكان القوم الذين خوطبوا بها أعرف الناس بسعة مذاهبها، وانتشار أنحائها، جرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه ويعتادونه منها، وفهموا أغراض المخاطب لهم بها على حسب عرفهم، وعادتهم في استعمالهم ... " (٢).وقد قسم الرماني "ت ٣٤٨هـ" البلاغة إلى عشرة أقسام في كتابه (النكت في إعجاز القرآن)، ومثل لذلك بالآيات القرآنية، وجعل من تلك الأقسام التجانس، وجعل فيه الصفات الواردة لله على وجه المقابلة مثل الاستهزاء والمخادعة، فذكر أنها استعيرت في حق المولى للدلالة على الجزاء، ومزاوجة الكلام، وليست على الحقيقة (٣)، ثم جعل من الأقسام المبالغة، فقسمها إلى ثلاثة أضرب: ثم قال: " .. الضرب الثاني: المبالغة بالصيغة العامة في موضع الخاصة، كقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الأنعام: ١٠١]، وكقول القائل: أتاني الناس، ولعله لا يكون أتاه إلا خمسة فاستكثرهم، وبالغ في العبارة عنهم" (٤). ثم قال: "الضرب الثالث: إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة، كقول القائل: جاء الملك إذا جاء جيش عظيم له، ومنه قوله عز وجل: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: ٢٢] فجعل مجيء دلائل الآيات مجيئاً له على المبالغة في الكلام، ومنه: فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ [النحل: ٢٦] أي أتاهم بعظيم بأسه فجعل ذلك إتياناً له على المبالغة، ومنه قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف: ١٤٣] " (٥).

وهكذا استخدم الرماني الأساليب البلاغية لخدمة معتقداته، فنفى الصفات الإلهية بها، ودفع خلق الله لأفعال العباد بها.


(١) انظر ((معاني القرآن)) للأخفش (١/ ٤٧ - ٤٨، ٥٤ - ٥٦)، و ((رسائل الجاحظ)) (٣/ ٣٤٤ - ٣٤٦).
(٢) انظر: ((الخصائص)) (٣/ ٢٤٥ - ٢٥٥).
(٣) ((النكت في إعجاز القرآن)) (ص ٩٩).
(٤) ((النكت في إعجاز القرآن)) (ص ١٠٤).
(٥) ((النكت في إعجاز القرآن)) (ص ١٠٤ - ١٠٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>