للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد أجمع السلف على أن العقل والاجتهاد عموماً يحتل المرتبة الثالثة بعد القرآن ثم السنة، إلا أن المعتزلة خالفوا هذا الإجماع ونصبوا العقل على رأس الأدلة إذ به – كما يقولون – يدركون القرآن نفسه وغيره من الأدلة. فهذا القاضي عبد الجبار في معرض حديثه عن الأدلة الشرعية يقول في تصنيفها ما يأتي: (أولها العقل لأن به يميز بين الحسن والقبح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع). ولا شك أن مدرك مخالفته وصحبه لإجمال الأمة فقال: (وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم فيظن أن الأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط، أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر، وليس الأمر كذلك لأن الله تعالى لم يخاطب إلا أهل العقل) (١).ويواصل تمجيد العقل فيبين أنه إنما يتوصل الناس إلى معرفة الله وإدراك حكمته بالعقل. . . وهكذا فهم أول من حكم العقل في النص لدرجة سمح معها إبراهيم النظام لنفسه أن يقول: وإن جهة حجة العقل قد تنسخ الأخبار (٢) كما أن عمرو بن عبيد ذكر له ذات يوم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا (٣).وبذلك أعملوا قدسية النص الصحيح قرآنا وسنة خلية عن الهوى، وأقاموا العقل حكماً لا ترد كلمته، وحملوه بالإضافة إلى مهمة التحسين والتقبيح – التي بيناها قريباً – مسؤولية (معرفة الله تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشرع) (٤) حتى أن الجاحظ يقرر أنه لا يجوز للعبد أن يبلغ ولا يعرف الله (٥) ذلك أن أصول المرعفة عندهم واجبة وضرورية ويمكن إدراكها بالعقل قبل ورود السمع (٦).ويضيف ثمامة بن الأشرس إلى هذا أن من لم يضطر إليها فهو سخرة للعباد وغيره كسائر الحيوانات غير المكلفة (٧).بل وذهب ثمامة وتلميذه الجاحظ إلى القول أن المعارف كلها طباع رغم كونها أفعالاً للعباد، فهي تصدر عنهم دون أن يكون لهم فيها أثر ولا اختيار اذ لا يملكون إلا الإرادة (٨) مما جعل البغدادي يلزمهما أن أفعال العباد من أوامر ونواهي لا توجب ثواباً ولا عقاباً لأنها طباع ليست كسباً (٩) ورغم هذا فقد جلب مسلكهم الممالي للعقل على حساب القرآن والسنة عطب الكثير من نقاد الغرب فكالوا لهم شهادات الاستحسان والإكبار وقد تعود الكثير من نقاد الغرب المسيحيين الإشادة بكل ما صار في ذمة التاريخ عند المسلمين حتى يشعروا الأجيال الحاضرة أن لا شيء مما يتمسكون به يدعو إلى الإكبار وبالتالي إلى الاعتزاز:

فهذا شتينر Stainer أطلق عليهم اسم: "المفكرون الأحرار في الإسلام" وجعل من هذا اللقب عنوان كتابه عنهم.

ووصفهم آدم ميز Adam Mez وهاملتون Hamiltion بأنهم دعاة الحرية الفكرية والاستنارة. أما جولد زيهر فيرفع عقيرته بالثناء عليهم ويصفهم بأنهم (وسعوا معين المعرفة الدينية بأن أدخلوا فيها عنصراً مهماً آخر قيماً وهو العقل الذي كان حتى ذلك الحين مبعداً بشدة عن هذه الناحية (١٠).


(١) ((فضل الاعتزال)) (١٣٩).
(٢) ((تأويل مختلف الحديث)) (٤٣).
(٣) ((ميزان الاعتدال)) (٣/ ٢٧٨).
(٤) ((ملل الشهرستاني)) (١/ ٧٠).
(٥) ((فضل الاعتزال)) (٧٣).
(٦) ((ملل الشهرستاني)) (١/ ٤٥).
(٧) ((فضل الاعتزال)) (٧٣).
(٨) ((الفرق بين الفرق)) (١٧٥)، ((فضل الاعتزال)) (٧٣).
(٩) ((الفرق بين الفرق)) (١٧٦)
(١٠) ((أدب المعتزلة)) (١٧٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>