للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

د – تشكيك المعتزلة وإنكارهم للكثير من الأحاديث: لقد آمن المعتزلة بأصولهم الخمسة وما يتفرع عنها من المبادئ والمفاهيم وجعلوا منها قاعدة يخضعون لها كل النصوص سواء كانت قرآنية أو حديثية: فما يعارض مبادئهم من الآيات يؤولونه، وما يعارضها من الأحاديث يردونه وينكرونه، ولذلك كان موقفهم من الحديث كما يقول أحمد أمين: (موقف المتشكك في صحته وأحيانا موقف المفكر له لأنهم يحكمون العقل في الحديث لا الحديث في العقل) (١).ولذلك نشهد استخفافا بالحديث وجرأة على حملته بلغت بعمرو بن عبيد إلى القول حين ذكر له حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا (٢) فتحكيمه للعقل جعله يعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى الله، وكثيرون هم هؤلاء المجترئون على الله والرسول اعتمادا على ما تزينه لهم عقولهم والشيطان من أمثال (الخوارج والمعتزلة وضعفة أهل الرأي حتى انسل أكثرهم عن الدين، وأتت فتاويهم ومذاهبهم مختلة القوانين وذلك لأنهم اتبعوا السبل وعدلوا عن الطريق، وبنوا أمرهم على غير أصل وثيق) (٣) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:١٠٩].ولعزوف المعتزلة عن الحديث قابلهم أهل البينة والجماعة بامتهانهم واحتقارهم مهما كان جاههم ومنصبهم في الدولة، فهذا المعتصم الخليفة العباسي يلتفت إلى أحمد بن حنبل ويقول له: (كلم ابن أبي دؤاد (٤) فأعرض عنه أحمد بوجهه وقال: كيف أكلم من لم أره على باب عالم قط؟) يريد عالم الحديث. وقد بلغ المعتزلة عداؤهم للحديث أن ردوا نصوصا كثيرة صحيحة: فقد ردوا حديث الشفاعة (٥) وحديث انشقاق القمر (٦) كما سنبين ذلك بعد حين وردوا حديث ((جف القلم بما أنت لاق)) (٧)، كما رد النظام حديث ((السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه)) (٨) ذلك أن هذين الحديثين يتعارضان مع ما يؤمنان به من نفي القدر وهما حديثان خرجهما البخاري في (الجامع الصحيح) (٩).ورد القاضي عبد الجبار حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا قاتل أحدكم أخاه، فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) (١٠)، وقال إن مثل (هذه الأخبار لا يجوز التصديق بها إذا كانت مخالفة للأدلة القاطعة) (١١).

والعجيب هنا هو ميلهم إلى الإنكار ونكوصهم عن التأويل ذلك أن بعض الأحاديث مثلها مثل بعض الآيات المتشابهة التي تحتاج إلى فهم عميق، يوفق بين ما يبدو من الاختلاف أو التعارض بينها وبين العقل.

وقد تولى أهل السنة درس هذا الحديث الذي رده القاضي عبد الجبار فقالوا: واختلف إلى ماذا يعود الضمير في (صورته):


(١) ((ضحى الإسلام)) (٣/ ٨٥).
(٢) ((ميزان الاعتدال)) (٣/ ٢٧٨).
(٣) ((الإلماع)) (٧).
(٤) ((الإلماع)) (٧).
(٥) ((السنة ومكانتها في التشريع)) (٢٠٣).
(٦) ((تأويل مختلف الحديث)) (٢١) - ((الفرق بين الفرق)) (٣١٩).
(٧) رواه البخاري (٥٠٧٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٨) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (٨٤٦٥) واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (٤/ ٥٩٦) شطره الأول فقط. قال العجلوني ((كشف الخفاء)): (١/ ٥٤٨) إسناده صحيح وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (٣٦٨٥).
(٩) ((فتح الباري)) (١٤/ ٢٩٣، ٢٨٢).
(١٠) رواه مسلم (٢٦١٢) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه البخاري (٢٥٥٩) , بدون الجملة الخيرة.
(١١) ((فضل الاعتزال)) (١٥١).

<<  <  ج: ص:  >  >>