للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان لابد للمبتدعة - على اختلاف أنواعهم – أن يحاولوا اختراق هذا الجدار المنيع الذي يحمي أسس العقيدة والشريعة وتفاصيلها ليتمكنوا من الزيادة في الدين أو النقص منه حسب ما يشاؤون، فذهبت المعتزلة إلى أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين، بينما حكم العقل يقيني إذ أنه هو مناط التكليف – الذي بدونه لا يكون الإنسان مكلفا – وعلى ذلك يجب تقديم الحكم العقلي على خبر الآحاد مطلقا سواء في العقائد أو في الشرائع العملية، بل إنهم ردوا أخبار الآحاد في العقائد جملة بدعوى أن العقيدة يجب أن تثبت بطريق قطعي يقيني لا بطريق ظني كخبر الواحد!، ولم يفرقوا بين ما هو صحيح من الأحاديث أو غيره من درجات الحديث، بل يكفي مخالفته لما ادعوه معقولا لرده وعدم العمل به؛ بل والقدح في رواته بغاية الجرأة والوقاحة.

وقد موهوا بأن التواتر – وهو رواية الخبر بطريق جمع كبير يؤمن عدم تواطئهم على الكذب أو النسيان – وحده هو الذي يفيد اليقين القطعي، وإن جعلوا الحكم العقلي مقدما عليه كذلك حين التعارض!.وكان من جراء ذلك أن رد المعتزلة الكثير من العقائد الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كعذاب القبر وكالإيمان بالحوض والصراط والميزان والشفاعة (١) وما سبق ذكره كرؤية الله في الآخرة، كما ردوا الكثير من الأحكام الشرعية الصحيحة الثابتة إما بدعوى مناقضتها للعقل، أو تعارضها مع الكتاب، أو تعارضها مع أحاديث أخرى – بزعمهم -!.فمما زعموا معارضته للعقل حديثه صلى الله عليه وسلم: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده)) (٢)، قالوا: كل الناس تعلم أين باتت يدها، وحتى إذا قصد المسلمون الحرج فالنائم مرفوع عنه الحرج ولا يؤاخذ بما يفعله في نومه "ولو أن رجلا مس فرجه في يقظته لما نقض ذلك طهارته فكيف بأن يمس وهو لا يعلم" (٣).ومما زعموا تعارضه مع الكتاب: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا وصية لوارث)) (٤)، قالوا: هذا معارض بقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ [البقرة: ١٨٠] (٥). والوالدان وارثان على كل حال. وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم: ((أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها)) (٦) إذ هو معارض لقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [النساء: ٢٣] ولم يذكر عمة الزوجة أو خالتها. كما روى عن أبي بكر بن محمد أنه قال: "قال عمرو بن عبيد: لا يعفى عن اللص دون السلطان – قال فحدثته بحديث صفوان بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (فهلا قبل أن تأتيني به) (٧). قال: أتحلف بالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؟ قلت: أفتحلف أنت بالله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله".


(١) ((مقالات الأشعري)) (٤٣٠، ٢/ ٤٧٢).
(٢) رواه مسلم -كتاب الطهارة-.
(٣) ((تأويل مختلف الحديث)) (٨٨).
(٤) رواه الترمذي (٢١٢٠) من حديث أبي أمامة، وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)).
(٥) ((تأويل مختلف الحديث)) (١٣٠).
(٦) رواه البخاري (٥١١٠) ومسلم (١٤٠٨).
(٧) ((الاعتصام للشاطبي)) (١/ ٢٣٢)، ((تاريخ بغداد للخطيب)) (١٢/ ١٨٧)، والحديث رواه أبو داود (٤٣٩٤) والنسائي (٤٨٧٩) وابن ماجه (٢٥٩٥) قال ابن كثير في ((تحفة الطالب)) (٢٢٢) روي من طرق كثيرة متعددة يشد بعضها بعضاً ومن الرواة من أرسله ومنهم من وصله. وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (٤٣٩٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>