وكثير من هؤلاء يسلب تلك النعمة، ثم قد يسلب الطاعة يصير فاسقاً، ومنهم من يرتد عن دين الإسلام، فطاعة الجن للإنسان ليست أعظم من طاعة الإنس، بل الإنس أجل وأعظم، وأفضل، وطاعتهم أنفع، وإذا كان المطاع من الإنس قد يطاع في طاعة الله فيكون محموداً مثاباً، وقد يطاع في معصية الله فيكون مذموماً آثماً.
فكذلك المطاع من الجن الذي يطيعه الناس، والمطاع من الإنس قد يكون مطاعاً لصلاحه ودينه. وقد يكون مطاعاً لملكه وقوته، وقد يكون مطاعاً لنفعه لمن يخدمه بالمعاوضة، فكذلك المطاع من الجن قد يطاع لصلاحه ودينه وقد يطاع لقوة وملك محمود أو مذموم، ثم الملك إذا سار بالعدل حمد، وإن سار بالظلم فعاقبته مذمومة، وقد يهلكه أعوانه فكذلك المطاع من الجن إذا ظلمهم أو ظلم الإنس بهم أو بغيرهم، كانت عاقبته مذمومة وقد تقتله الجن أو تسلط عليه من الإنس من يقتله، وكل هذا واقع نعرف من ذلك من الوقائع ما يطول وصفه كما نعرف من ذلك من وقائع الإنس ما يطول وصفه، وليس آيات الأنبياء في شيء من هذا الجنس.
ونبينا صلى الله عليه وسلم لما أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إنما أسري به ليرى من آيات ربه الكبرى، وهذا هو الذي كان من خصائصه أن مسراه كان هذا كما قال تعالى: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم: ١٢ - ١٥].
وقال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ [الإسراء: ٦٠]. قال ابن عباس هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به فهذا الذي كان من خصائصه، ومن أعلام نبوته وأما مجرد قطع تلك المسافة، فهذا يكون لمن تحمله الجن، وقد قال العفريت لسليمان: قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ [النمل: ٣٩] وحمل العرش من القصر من اليمن إلى الشام أبلغ من ذلك.
وقال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فهذا أبلغ من قطع المسافة التي بين المسجدين في ليلة ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل من الذي عنده علم من الكتاب ومن سليمان، فكان الذي خصه الله به أفضل من ذلك، وهو أنه أسري به في ليلة ليريه من آياته، فالخاصة أن الإسراء كان ليريه من آياته الكبرى كما رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى.
فهذا ما حصل مثله لا لسليمان ولا لغيره، والجن وإن قدروا على حمل بعض الناس في الهواء فلا يقدرون على إصعاده إلى السماء وإراءته آيات ربه الكبرى، فكان ما آتاه الله محمداً خارجاً عن قدرة الجن والإنس، وإنما كان الذي صحبه في معراجه جبريل الذي اصطفاه الله لرسالته، والله يصطفي من الملائكة رسلاً، ومن الناس، وكان المقصود من الإسراء أن يريه ما رآه من آياته الكبرى، ثم يخبر به الناس.
فلما أخبر به كذب به من كذب من المشركين، وصدق به الصديق وأمثاله من المؤمنين، فكان ذلك ابتلاء ومحنة للناس كما قال: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ [الإسراء: ٦٠]. أي محنة وابتلاء للناس ليتميز المؤمن عن الكافر، وكان فيما أخبرهم به أنه رأى الجنة والنار وهذا مما يخوفهم به قال تعالى: وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء: ٦٠]. والرسول لما أخبرهم بما رآه كذبوه في نفس الإسراء وأنكروا أن يكون أسري به إلى المسجد الأقصى، فلما سألوه عن صفته فوصفه لهم وقد علموا أنه لم يره قبل ذلك، وصدقه من رآه منهم كان ذلك دليلاً على صدقه في المسرى، فلم يمكنهم مع ذلك تكذيبه فيما لم يروه، وأخبر الله تعالى بالمسرى على المسجد الأقصى لأنهم قد علموا صدقه في ذلك بما أخبرهم به من علاماته فلا يمكنهم تكذيبه في ذلك.
وذكر أنه رأى من آيات ربه الكبرى ولم يعين ما رآه وهو جبريل الذي رآه في صورته التي خلق عليها مرتين، لأن رؤية جبريل هي من تمام نبوته، ومما يبين أن الذي أتاه بالقرآن ملك لا شيطان كما قال في سورة إذا الشمس كورت: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: ١٩ - ٢١] ثم قال: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ [التكوير: ٢٢ - ٢٧].
المصدر:النبوات لابن تيمية - ص١٧٥