ونحن نعرف من هؤلاء عدداً كثيراً وليسوا صالحين بل فيهم كفار ومنافقون وفساق وجهال لا يعرفون الشريعة والشياطين تحملهم وتطير بهم من مكان إلى مكان، وتحملهم إلى عرفات فيشهدون عرفات من غير إحرام ولا تلبية ولا طواف بالبيت وهذا الفعل حرام. والجهال يحسبون أنه من كرامات الصالحين فتفعله الجن بمن يحب ذلك مكراً به وخديعة أو خدمة لمن يستخدمهم من هؤلاء الجهال بالشريعة وإن كان له زهد وعبادة. وكذلك الجن كثيراً ما يأتون الناس بما يأخذونه من أموال الناس من طعام وشراب ونفقة وماء وغير ذلك وهو من جنس ما يسرقه الإنسي ويأتي به إلى الإنسي لكن الجن تأتي بالطعام والشراب في مكان العدم، ولهذا لم يكن مثل هذا آية لنبي وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده في الماء فينبع الماء من بين أصابعه وهذا لا يقدر عليه لا أنس ولا جن، وكذلك الطعام القليل يصير كثيراً، وهذا لا يقدر عليه لا الجن ولا الأنس ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم قط بطعام من الغيب ولا شراب، وإنما كان هذا قد يحصل لبعض أصحابه كما أتى حبيب بن عدي وهو أسير بمكة بقطف من عنب، وهذا الجنس ليس من خصائص الأنبياء ومريم عليها السلام لم تكن نبية وكانت تؤتى بطعام، فإن هذا قد يكون من حلال فيكن كرامة يأتي به إما ملك، وإما جني مسلم وقد يكون حراماً، فليس كل ما كان من آيات الأنبياء يكون كرامة للصالحين، وهؤلاء يسوون بين هذا وهذا، ويقولون: الفرق هو دعوى النبوة والتحدي بالمثل، وهذا غلط فإن آيات الأنبياء عليهم السلام التي دلت على نبوتهم هي أعلى مما يشتركون فيه هم وأتباعهم مثل الإتيان بالقرآن، ومثل الإخبار بأحوال الأنبياء المتقدمين وأممهم والأخبار بما يكون يوم القيامة، واشراط الساعة ومثل إخراج الناقة من الأرض ومثل قلب العصا حية وشق البحر، ومثل أن يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وتسخير الجن لسليمان لم يكن مثله لغيره.
لكن من الجن المؤمنين من يعاون المؤمنين، ومن الجن الفساق والكفار من يعاون الفساق كما يعاون الإنس بعضهم بعضاً فإما طاعة مثل طاعة سليمان، فهذا لم يكن لغير سليمان عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم أعطي أفضل مما أعطي سليمان عليه السلام فإنه أرسل إلى الجن وأمروا أن يؤمنوا به ويطيعوه فهو يدعوهم إلى عبادة الله وطاعته لا يأمرهم بخدمته وقضاء حوائجه ما كان سليمان يأمرهم ولا يقهرهم بل يفعل فيهم كما يفعل في الإنس، فيجاهدهم الجن والمؤمنون ويقيمون الحدود على منافقيهم فيتصرف فيهم تصرف العبد الرسول لا تصرف النبي الملك.
كما كان سليمان يتصرف فيهم والصالحون من أمته المتبعون له يتبعونه فيما كان يأمر به الإنس والجن وآخرون دون هؤلاء قد يستخدمون بعض الجن في مباحات كما قد يستخدمون بعض الإنس وقد يكون ذلك مما ينقص دينهم لا سيما إن كان بسبب غير مباح وآخرون شر من هؤلاء يستخدمون الجن في أمور محرمة من الظلم والفواحش فيقتلون نفوساً بغير حق ويعينونهم على ما يطلبونه من الفاحشة كما يحضرون لهم امرأة أو صبياً، أو يجذبونه إليه وآخرون يستخدمونهم في الكفر، فهذه الأمور ليست من كرامات الصالحين، فإن كرامات الصالحين هو ما كان سببه الإيمان والتقوى لا ما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان، وأيضاً فالصالحون سابقوهم لا يستخدمونهم إلا في طاعة الله ورسوله، ومن هو دون هؤلاء لا يستخدمهم إلا في مباح وأما استخدامهم في المحرمات فهو حرام، وإن كانوا إنما خدموه لطاعته لله كما لو خدم الإنس رجلاً صالحاً لطاعته لله، ثم استخدمهم فيما لا يجوز فهذا بمنزلة من أنعم عليه بطاعته نعمة فصرفها إلى معصية الله فهو آثم بذلك.