للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم إن المثير في هذه القضية أن المعتزلة جعلوا جميع النصوص التي تصادم مقرراتهم من المتشابه، ولا حجة لهم في ذلك سوى ركوب صهوة عقل الاعتزال. قال ابن القيم – بعد أن ذكر جملة من الآيات الدالة على خلق الله لأفعال العباد -: "والقدرية ترد هذا كله إلى المتشابه، وتجعله من متشابه القرآن وتتأوله على غير تأويله، بل تتأوله بما يقطع ببطلانه، وعدم إرادة المتكلم له" (١).وفي ذلك يقول القاضي عبدالجبار: "فأقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه أدلة العقول (٢) " ويقول: "ونحن نبين الآن في جمل المتشابه أن ظاهره لا يدل على ما يقوله المخالف ألبتة" (٣) هكذا حكم هؤلاء عقولهم وقرروا مذهبهم ثم هجموا على النصوص الشرعية بلا هوادة، فما وجدوه يدل على ما يحتمل وجهاً – ولو بعيداً – فيه إقرار بما قرروا جعلوه محكماً،، ونصاً فيما اعتقدوه، وما ألفوه يخالف مقرراتهم السابقة جعلوه متشابهاً وأولوه حتى لا يتفق مع ما يذهب إليه "المخالف"، وكان عبدالجبار هذا من أبرزهم في هذا المجال، يقول د. فاروق الدسوقي: "والملاحظ أن القاضي يقتطع الآية من سياقها، بل يقتطع جزءً من الآية ليستدل به على مذهبه، ويغفل ذكر السياق، أو بقية الآية، كما أنه يترك الكثير من الآيات الصريحة المحكمة التي تدل على خلاف مذهبه، أو تثبت مذهب الخصوم في هذه القضية" (٤).قلت: لو كان يترك مثل هذه الآيات لكان الخطب أهون، لكنه يجعلها من المتشابه، ويشتغل بتأويلها ما وجد إلى ذلك سبيلاً، فنجده يقول – مؤولاً قوله تعالى: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [البقرة: ٢٧٢]-: "ويريد بذلك أنه ليس عليه إثابتهم، والأخذ بأيديهم في طرق الجنة، وأنه تعالى هو المختص بذلك" (٥).وهذا تأويل ساقط؛ فإن هذه الآية واضحة الدلالة في أن الله تعالى هو الموفق من يشاء إلى الإيمان، حيث نفى الهداية عن النبي صلى الله عليه وسلم فتبين أنه لا يقصد هداية الإرشاد الثابتة له، في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: ٥٢] بل أراد هداية أقصى من هذه، وهي خلق المشيئة والإرادة المستلزمة لفعل ما يحبه الله تعالى، قال ابن القيم – رحمه الله -: "وهذه المرتبة تستلزم أمرين: أحدهما: فعل الرب تعالى، وهو الهدي، والثاني: فعل العبد، وهو الاهتداء وهو أثر فعله تعالى فهو الهادي، والعبد المهتدي قال تعالى: وَمَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ [الإسراء: ٩٧] ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثره التام، فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد، ولهذا قال تعالى: إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ [النحل: ٣٧] وهذا صريح في أن هذا الهدي ليس له صلى الله عليه وسلم ولو حرص عليه، ولا إلى أحد غير الله، وأن الله سبحانه إذا أصل عبداً لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته، كما قال تعالى: مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ [الأعراف: ١٨٦] " (٦).ثم إن الله تعالى لو أراد ذلك لقال لنبيه: ليس عليك إثابتهم والأخذ بأيديهم يوم القيامة على الجنة، ويبدو أن الرجل أخذه إحساس بأن هذا التأويل لا يقنعه هو فضلاً عن غيره فراح يبحث عن تأويل آخر فتخبط وفضح نفسه بقوله: "أو يريد بذلك ليس عليك إلا الدعاء يعني الدعوة فأما القبول فإليهم." (٧)


(١) ((شفاء العليل)) (ص١٧٤) / القاهرة/ دار التراث/ ت: حسن عبدالله الحساني.
(٢) ((متشابه القرآن)) (١/ ٨).
(٣) ((متشابه القرآن)) (١/ ٣٨).
(٤) ((القضاء والقدر في الإسلام)) (٢/ ٢٨٢) / بيروت/ المكتب الإسلامي/ ١٤٠٦هـ.
(٥) ((متشابه القرآن)) (١/ ١٣٧).
(٦) ((شفاء العليل)) (ص ١٧٠).
(٧) ((متشابه القرآن)) (١/ ١٣٧) ..

<<  <  ج: ص:  >  >>