للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا التأويل لا يتناسب إطلاقاً مع آخر الآية وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [البقرة: ٢٧٢] بل كان المناسب أن يقول: ولكنهم يهدون أنفسهم.- قال تعالى: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: ٧] قال أهل اللغة والتفسير: "ختم على القلوب أقفالها، فلم تسع خيراً" (١).لقد "بين الله تعالى المانع لهم من الإيمان بقوله: خَتَمَ اللهُ والختم: مصدر ختمت ختماً، فهو مختوم، ومختم، شدد للمبالغة، ومعناه: التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء، ومنه ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غير ما فيه" (٢).ومما يؤكد معنى هذه الآية ودلالته أن الله تبارك وتعالى قرره بألفاظ كثيرة في آيات عديدة، فورد بلفظ "الطبع" كقوله تعالى: كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ [يونس: ٧٤] والطبع كالختم، قال ابن فارس: "الطاء، والباء، والعين، أصل صحيح، مثل على نهاية ينتهي إليها الشيء حتى يختم عندها، يقال: طبعت على الشيء طابعاً، ثم يقال: على هذا طبع الإنسان وسجيته، ومن ذلك طبع الله على قلب الكافر، كأنه ختم عليه حتى لا يصل إليه هدى ولا نور، ولا يوفق لخير" (٣) وورد بلفظ "أكنه" كقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الكهف: ٥٧] "والأكنة: الأغطية، جمع كنان، مثل الأسنة والسنان، والأعنة والعنان، كننت الشيء في كنه إذا سننه فيه، وأكننت الشيء: أخفيته" (٤).هذا كله صريح في أن الله تعالى خالق لأفعال العباد، فهو سبحانه وتعالى خالق لهذا الضلال، والختم والوقر، فتحول بين العبد وبين الإيمان، إلا أنه سبحانه وتعالى لا يفعل ذلك بعبده ابتداء لأول وهلة، بل يفعله لحكمة ولسبب، حيث يأمره بالإيمان، ويبينه له، فإذا تكررت الدعوة وتأكد البيان، والإرشاد، وأقيمت الحجة، ثم تكرر الإعراض والمبالغة في العناد، والكفر، فحينئذ يطبع على القلب، ويختم عليه، فلا يقبل الهدى بعد ذلك؛ إذ من المعلوم أن الكفر الأول لم يكن بختم وطبع، بل كان باختيار منه، فلو كان كل كافر مختوم القلب لم يهتد كافر قط، ويدل على هذا قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ [البقرة: ٢٦] وقوله: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: ٥٥] وقوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: ٥] وقوله: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: ١٤] وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ [الكهف: ٥٧] قال السعدي: "يخبر تعالى أنه لا أعظم ظلماً، ولا أكثر جرماً، من عبد ذكر بآيات الله وبين له الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وخوف ورهب، ورعب، فأعرض عنها، فلم يتذكر بما ذكر به، ولم يرجع عما كان عليه، ونسي ما قدمت يداه من الذنوب، ولم يراقب علام الغيوب ...


(١) ابن القطاع: ((كتاب الأفعال)) (١/ ٢٩٥) / حيدر آباد الدكن/ دائرة المعارف العثمانية/ ١٣٦٠هـ.
(٢) القرطبي: ((الجامع لأحكام القرآن)) (١/ ١٨٦).
(٣) ((معجم مقاييس اللغة)) مادة (ط ب ع).
(٤) القرطبي: ((الجامع لأحكام القرآن)) (٦/ ٤٠٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>