للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن الله تعالى عاقبه بسبب إعراضه عن آياته، ونسيانه لذنوبه، ورضاه لنفسه حالة الشر، مع علمه بها أن سد عليه أبواب الهداية، بأن جعل على قلبه أكنة، أي: أغطية محكمة تمنعه أن يفقه الآيات، وإن يسمعها فليس في إمكانه الفقه الذي يصل إلى القلب ... إلى قوله: وأما هؤلاء الذين أبصروا ثم عموا، ورأوا طريق الحق فتركوه، وطريق الضلال فسلكوه، وعاقبهم الله بإقفال القلوب، والطبع عليها، فليس في هدايتهم حيلة ولا طريق" (١) قلت: وهذا الختم هو الانتقام الذي ذكره تعالى في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة: ٢٢] والختم والطبع من الأمور الواضحة المحكمة، لكن المعتزلة لما وجدوه يقرر ما يخالف معتقدهم في القدر راحوا يؤولونه تأويلات بعيدة فاسدة، يقول القاضي عبدالجبار: "وقد يراد به الحكم عليه بأنه لا ينتفع بما سمعه، كما يقال فيمن نوظر وبين له طويلاً: ختمت عليك، أي: لا تفهم .. إلى أن قال: ويجب أن يحمل على أن المراد أنه علَّم على قلوبهم بعلامة تعرف بها الملائكة أنهم من أهل الذم، كما كتب في القلوب الإيمان لكي تعلم الملائكة أنهم من أهل المدح" (٢) وقال غيره: "لا ختم ولا تغشية ثم على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز" (٣).أما هذا القول فقد تولى الإجابة عليه أهل العلم فقال القرطبي: "في هذه الآية أدل دليل، وأوضح سبيل على أن الله سبحانه خالق الهدى والضلال، والكفر والإيمان، فاعتبروا أيها السامعون، وتعجبوا أيها المفكرون من عقول القدرية القائلين بخلق إيمانهم، وهداهم؛ فإن الختم هو الطبع فمن أين لهم الإيمان ولو جهدوا، وقد طبع على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة فمتى يهتدون؟ ومن يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم، وأعمى أبصارهم وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر: ٣٣] وكان فعل الله ذلك عدلاً فيمن أضله وخذله؛ إذ لم يمنعه حقاً وجب له فنزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم، فإن قالوا: إن معنى الختم والطبع والغشاوة التسمية والحكم والإخبار بأنهم لا يؤمنون لا الفعل. قلنا: هذا فاسد؛ لأن حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب مطبوعاً مختوماً، لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم، ألا ترى أنه إذا قيل: فلان طبع الكتاب وختمه، كان حقيقته أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعاً مختوماً، لا التسمية والحكم، هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة، ولأن الأمة مجمعة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم، كما قال تعالى: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: ١٥٥] وأجمعت الأمة على أن الطبع والختم على قلوبهم من جهة النبي عليه السلام والملائكة والمؤمنين ممتنع، فلو كان الختم والطبع هو التسمية والحكم لما امتنع من ذلك الأنبياء والمؤمنون؛ لأنهم كلهم يسمون الكفار بأنهم مطبوع على قلوبهم وأنهم مختوم عليها، وأنهم في ضلال لا يؤمنون، ويحكمون عليهم بذلك، فثبت أن الختم والطبع هو معنى غير التسمية والحكم، وإنما هو معنى يخلقه الله في القلب يمنع من الإيمان به" (٤).


(١) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير الكلام المنان)) (٥/ ٥٢ - ٥٣).
(٢) ((متشابه القرآن)) (١/ ٥١، ٥٢).
(٣) ((الكشاف)) (١/ ٢٦).
(٤) ((الكشاف)) (١/ ١٨٦ - ١٨٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>