للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الآخر فليتق الله وليتعلم، وليدع ما حسبه ورعاً، فوالله ما هو بالورع المشروع، فإن الباطل موجود وله دعاة، وبدعة الجهمية لم تنفك عن الناس، وليكفه الاقتداء بأعلام الأمة، ورؤوس الأئمة، من بعد عصر الصحابة وكبار التابعين، الذين عافاهم الله من هذا البلاء، مثل: الثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد، وابن معين، والبخاري.

وممن سبقت الإشارة إليهم صنف حملوا التكفير في النصوص السالفة عن الأئمة وما يشبهها على الكفر الأصغر الذي لا يفارق به الدين، وهذا أيضاً من تهوينهم لهذه القضية، وتمويههم على الناس، وإلا فإن الكثير من النصوص المذكورة وغيرها صريحة في إخراجهم من الإسلام، ويجب أن يحمل ما أطلق من ألفاظ تكفيرهم على هذا المعنى الصريح، وأنا على يقين أن من فهم الاعتقاد السليم الذي شرحناه في الباب الأول، وفهم ما شبه به المعتزلة الجهمية على الناس، فإنه لا يرتاب في كفرهم الأكبر المخرج من الإسلام.

فإن قيل: أليسوا يشهدون أن لا إله إلا الله؟

قلنا: بلى، ولكنهم نقضوها بقولهم: مخلوقة، ونقضوها بتكذيب القرآن، وبنفي صفات رب العالمين، ووصفه بالعجز والنقص، بل وصفه بالعدم، فأي توحيد بعد هذا؟

فإن قيل: هذا الإمام أحمد رحمه الله وهو من أشد الناس في هذه المسألة، ولقي بسببها ما لقي، لم يكفر المأمون، ولا المعتصم، ولا الواثق، بل ربما دعا لبعضهم، وأقر بإمرة المؤمنين، وكانوا حملة راية الفتنة بخلق القرآن، فلو كان كفراً مخرجاً من الإسلام لما دعا، أو عفا، أو أقر بإمرة المؤمنين.

قلنا: هذا جهل من المعترض بحقيقة الأمر، فإن إطلاق التكفير ليس كتعيينه، إذ الحكم به على المعين قد يتخلف لمعنى، كتأويل، أو جهل، أو إكراه، فإنه يقال: من قال كذا كفر، ومن اعتقد كذا فهو خارج من الإسلام، وليس معناه أنا إذا وجدنا مسلماً وقع في ذلك استحق وصف الكفر به، حتى نعلم يقيناً أن قد بلغته الحجة الشرعية التامة الواضحة، فانتفى جهله بذلك، ولم يبق في نفسه نوع تأويل، وهذا أمر يعسر في الغالب، ولذا لم يكن من هدي السلف تكفير المعين حتى يوجد مقتضى التكفير، وتنتفي موانعه، ألست ترى تكفيرهم للجعد وجهم والمريسي؟ كفروهم بأعيانهم لانتفاء الجهل والتأويل، لما تضمنت أقوالهم من صراحة الكفر، وألست ترى تكفير الشافعي رحمه الله حفصاً الفرد؟ كان بعد مناظرة وبيان، فقامت عليه الحجة، وانتفى أن يكون له حجة، فلم يقع الشافعي في حرج من تكفيره بعينه.

ولما لم يفهم بعض الناس هذه القضية والفصل فيها، تحيروا في تفسير ألفاظ الأئمة المطلقة في ذلك، فحملها أقوام على الكفر الأصغر، وعاب بعضهم بعض الأئمة في تلك الإطلاقات، كما رأيت ذلك لبعضهم. هذا مع أنه قد ثبت عن الإمام أحمد أنه قال: "علماء المعتزلة زنادقة" (١).

وهذا يتضمن أن حال العارف العالم منهم غير حال من يتبعهم على جهل، كالخلفاء – الذين لا يفقهون إلا حفظ المناصب – وسائر العامة، الذين تلتبس عليهم الحقائق بما تثيره المبتدعة من الشبه.

المصدر:العقيدة السلفية في كلام رب البرية لعبدالله يوسف الجديع – ص ٣٢٣


(١) رواه ابن الجوزي في ((المناقب)) (ص: ١٥٨) بسند جيد.

<<  <  ج: ص:  >  >>