ثم مر العالم الإسلامي بعد هذه الحروب التي أنهكته – بفترة أخلد فيها إلى الدعة وآثر السكون والخمول فلم تفت الفرصة على الأعداء فتداعوا عليه كما تتداعى الأكلة على قصعتها فأكلوا منه وشربوا حتى ٍأصبح جسماً بلا روح أو كاد بل أصبح غثاء كغثاء السيل. وأمست البلاد الإسلامية تحت سيطرة الدول الأوربية التي استغلت خيراتها ونعمت بثرواتها واستيقظ العالم الإسلامي على أزيز الطائرات ودوي المدافع وضجيج المصانع فانبهر بتلك الحضارة وبادر إلى السؤال عن أسبابها ولم يفت على الاستعمار إعداد الجواب لمثل هذا السؤال فقد أقصى أصحاب الثقافة الدينية عن ميادين الإصلاح وحصر وظائفه في المساجد التي قل روادها عموما وأصبحت الوظائف الحكومية وأدوات التوجيه الاجتماعي في أيدي أصحاب الثقافة الأوروبية (١) الذين نشأوا في أحضان الاستعمار وتشبعوا بثقافته فسيطروا على أجهزة التعليم في كثير من البلاد الإسلامية فضلا عن جهود الاستعمار الدائبة لنشر التغريب واللادينية بكل الوسائل الممكنة وأوهموا الناس أن حالة العالم الإسلامي تشبه حالة أوروبا في العصور الوسطى ولن ينهض إلا بما نهضت به أوروبا من فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية وبذلك يتحقق له ما تحقق للأوروبيين.
وهال الأمر علماء المسلمين وذهبوا للرد على تلك الأفكار مذاهب شتى. وحاولت فئة منهم التوفيق بين الدين والعلم وبينت للناس أن الدين الإسلامي الحق لا يحارب العلم ولا ينافي العقل وأنه دين العقل والحرية والفكر. وذهبت تبين للناس ذلك المنهج وتقيم الدين الإسلامي على العقل – الذي لا يقر أرباب الثقافة الغربية غيره حكما – وبينت أن ليس في الإسلام ما لا يقره العقل وحاولت أن تفسر القرآن الكريم على هذا المنهج وهذا الأساس وكان لهذه المدرسة العقلية رجال كان لهم نشاط واسع في نشر هذه الثقافة ومكافحة الاستعمار ومقاومة الهجوم على الدين وإلقاء التبعة عليه في التخلف الحضاري.
وكان من رجال هذه المدرسة المؤسسين لها جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده وتلاميذه محمد مصطفى المراغي ومحمد رشيد رضا وغير هؤلاء كثير.
وسميت نهضتهم هذه بالنهضة الإصلاحية وكان لهذه المدرسة آراء كثيرة تخالف رأي السلف وشطحات ما كانوا ليقعوا فيها لولا مبالغتهم الشديدة في تحكيم العقل في كل أمور الدين حتى جاوزوا الحق والصواب وشكك بعض رجال الفكر الإسلامي الحديث في نزاهة المؤسسين لهذه المدرسة أعني جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده مستدلين على ذلك ببعض علاقاتهم وما ورد في كتاباتهم.
المصدر:منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص ٦٦
يمكن للباحث من خلال كتابات عديد من الكتاب، في بضع العقود الماضية، أن يتلمس آثار مدرسة فكرية مميزة ينتمي إليها فكر هؤلاء الكتاب وآراؤهم، يستدل عليها بوحدة الآراء، وتقارب المفاهيم، وتميز بتشابه الموضوعات، وتلاقي المقاصد والغايات. هذه المدرسة – التي وإن لم تتخذ صبغة رسمية – تفجأ القارئ المسلم بتلك الدعاوى والآراء، التي هي امتداد لما عرف بالمدرسة الإصلاحية وزعماؤها: السير أحمد خان الهندي وجمال الدين الأسد آبادي، ومن بعده الشيخ محمد عبده، في نهاية القرن الماضي، وهي كذلك إحياء للمنهج الاعتزالي في تناول الشريعة، وتحكيم العقل فيما لا يحتكم فيه إليه.
(١) ((الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)) (١/ ٢٥٥).