ونختم الحديث هنا برأي صنيعة من صنائعهم وأثر من آثارهم هو الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي لكنه مع هذا أبى إلا أن يقول الحق في منهجهم.
أما أنه متأثر بهم معجب فشاهده أنه قال في إهداء كتابه (النظرات) "إن كان لي في هذا السفر فضيلة يعجب بها الفاضل أو رأي يرضى عنه العاقل، أو ديباجة يثني عليها الأديب فلا يد فيها لأحد من الناس غير هؤلاء الرجال الثلاثة ولي نفسي والدي السيد محمد لطفي وولي عقلي أستاذي الشيخ محمد عبده، وولي أمري سيدي سعد باشا زغلول أولئك الذين أهدي إليهم كتابي لأنه حسنة من حسناتهم وصنيعة من صنائعهم وأثر من آثار عنايتهم ورعايتهم وأولئك الذين أحسنوا إلي في هذه الحياة إحساناً لا أزال أذكر أياديهم البيضاء فيه حتى يعتاق نفسي حمامهم وعظامي رجامها" إلخ.
ولكن هذا الولاء لوالده ولا دخل لنا فيه، ولمحمد عبده ولسعد زغلول وهو مرادنا لم يمنعه من قول الحق في نقد منهج محمد عبده حيث عرض لذكره في مقالة عنوانها (يوم الحساب) تخيل فيها أنه قد انتقل من العالم الأول إلى العالم الثاني ورأى كأنه بعث بعد الموت وكأن أبناء آدم مجتمعون في صعيد واحد يحاسبون على أعمالهم فألهم أنه موقف الحشر وأنه يوم الحساب ثم تخيل حواراً جرى هناك بين محمد عبده وقاسم أمين عاتب فيه الأول الثاني على دعوته إلى السفور فإذا بقاسم أمين يجيب "أتأذن لي يا مولاي أن أقول لك: إنك وقعت في مثل ما وقعت فيه من الخطأ .. وإنك نصحتني بما لم تنصح به نفسك، أنا أردت أن أنصح المرأة فأفسدتها كما تقول، وأنت أردت أن تحيي الإسلام فقتلته، إنك فاجأت جهلة المسلمين بما لا يفهمون من الآراء الدينية الصحيحة والمقاصد العالية الشريفة فأرادوا غير ما أردت وفهموا غير ما فهمت فأصبحوا ملحدين، بعد أن كانوا مخرفين، وأنت تعلم أن ديناً خرافياً خير من لا دين. أولت لهم بعض آيات الكتاب فاتخذوا التأويل قاعدة حتى أولوا الملك والشيطان والجنة والنار، وبينت لهم حكم العبادات وأسرارها وسفهت لهم رأيهم في الأخذ بقشورها دون لبابها، فتركوها جملة واحدة! وقلت لهم عن الولي إله باطل والله إله حق فأنكروا الألوهية حقها وباطلها، فتهلل وجه الشيخ وقال له ما زلت يا قاسم في أخراك مثلك في دنياك لا تضطرب في حجة ولا تنام عن ثأر" (١).
حسبك بهذا الاتهام من صنيعة من صنائعهم وأثر من آثار عنايتهم ورعايتهم وخلاصة ما نقلنا من نقد لهم هنا أنهم:-
١ - غير ملتزمين للشعائر الإسلامية من صلاة أو حج .. إلخ.
٢ - إن تعاونهم مع الاحتلال ودول الاستعمار إما لأنهم عملاء كما يقول بعض النقاد أو سذاجة منهم كما يقول آخرون.
٣ - إن لهم دعوة باطنية يظهرون منها ما يخالف حقيقتها وباطنها.
٤ - إنهم جاروا مذهب الاعتزال في كثير من مذاهبهم حتى أطلق عليهم أنهم معتزلة العصر الحديث.
٥ - إنهم الوسيلة التي اتخذها الاستعمار والمستعمرون لتحويل وتحوير الإسلام من الداخل ليعطي السند الفكري والدعم الديني لمعطيات الحضارة الغربية.
٦ - إن منهجهم في التفسير ضال ومنحرف.
كل هذا وغيره كثير كشفه الناقدون لهم لكن هذا كله، ولكنهم كلهم لم يكن لهم من الأثر ما يذكر، في التقليل من رواج حسن سيرتهم بين الناس وانخداع العلماء بهم قبل العوام حتى وصلوا إلى درجة لا يجرؤ عالم من العلماء على نقدهم علانية أمام ملأ من الناس في مجتمعهم.
لم يكن السبب في هذا سراً لا يعلمه أحد بل علمه وخبره الكثيرون وأعلنوه للناس أيضاً، قالوا أن السبب أن الاستعمار يقف خلفهم ويؤيدهم ويساند دعوتهم ويحميهم أينما ساروا، ويحمي أفكارهم ومبادئهم في اللحظة التي يحتاجون فيها إلى الحماية ويسعى إلى ترويج آرائهم بين المسلمين وإيصال صوتهم ودعوتهم إلى الناس.
وجند الاستعمار جنوده من المستشرقين للثناء عليهم ومدحهم حتى يروج ذلك بين الكتاب المسلمين فينقلوه عنهم نقل الإعجاب والتأييد "والافتخار" برجلين أو رجال من المشرق نالوا رتبة عالية عند رجال الغرب في المباحث الدينية، وهي رتبة تهفو إلى بلوغها أنظار طلاب الشهرة ولو على حساب الدين فأخذوا ينقلون ويروجون أفكارهم ومبادئهم لا نقل الفاحص الناقد وإنما نقل المؤيد المسلم لهم ما يقولون.
وبهذا راجت بين الناس أفكارهم وطغت على أذهانهم مبادؤهم فلا يسمعون صيحة "مخنوق" ضدهم ولا همس هامس في نقدهم، ولا صرخة محذر بين صيحات المخدوعين وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦].
حتى ألجأوا بعض من يريد قول الحقيقة إلى قولها مشوبة بالثناء عليهم ومدحهم وتمجيدهم تقرباً إلى المخدوعين بهم.
ذلك أثر من آثار الاستعمار، ونتيجة لدراسة نقدية مزعومة من المستشرقين لا ندعي ذلك ادعاء ونثبت هنا ما يقيم أساسه
المصدر:منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير لفهد الرومي - ص ٧٨١
(١) ((النظرات)) مصطفى لطفي المنفلوطي (١/ ١٢٣ - ١٢٤).