للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والواقع إنهم ما كان ينبغي لهم أن يتعللوا بمثل هذا السبب في خروجهم عليه؛ إذ إن استرقاق المسلمين في حروبهم لبعضهم لا يجوز مطلقا فما بالك بنسائهم وذراريهم؟!

فإذا كانوا قد استحلوا الخروج على الإمام علي – مع عدله وفضله – فما ظنك بغيره؟! والواقع أن إقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر واجب على المسلمين، ولكنه لا يمكن أن يكون مبررا صحيحا لخروج الخوارج على هذا النحو الذي خرجوا عليه؛ فهناك ضوابط إسلامية في الإنكار على الولاة وإحقاق الحق بين الناس، حتى تؤتي هذه القاعدة الشرعية ثمرتها المرجوة في إصلاح الحكم والمجتمع؛ إذ لو جاز لكل إنسان أن يزيل ما يراه منكرا بأنكر منه لأفضى هذا العمل بالناس إلى الفساد والفوضى والخروج عن الجماعة. وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: ((من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) (١) وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الأمراء سيكون منهم تارة الخير وتارة الشر، ومع هذا فإنه لا يجوز الخروج عليهم. فعن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون في أمتي هنات وهنات وهنات - أي شرور وفساد - فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان)) (٢).وحين أخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه عن أمراء قائلا لهم: ((تعرفون منهم وتنكرون: قالوا له: يا رسول الله أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا)) (٣).وفي رواية عند مسلم: ((قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف. فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة)) (٤).

وإذا كنا قد أمرنا بطاعة أولي الأمر وعدم جواز الخروج عليهم، فليس معنى ذلك أننا مأمورون بطاعتهم في كل ما يأمرون به، بل هناك أحاديث قد بينت الحد الذي تنتهي عنده طاعتهم وذلك فيما إذا أمروا بمعصية أو ظهر منهم كفر بواح؛ فحينئذ لا طاعة لهم؛ إذ إنه قد انتفى ما يوجب طاعتهم وهو عدم تمسكهم بالشرع. وسنزيد هذا وضوحا في بحث الإمامة إن شاء الله.

أما أن يتخذ جور الحكام وظهور المعاصي بين الناس سببا لحكم الخوارج على الناس بالكفر واستباحة دمائهم وأموالهم وإشاعة المظالم والمفاسد بينهم أكثر مما كانوا عليه؛ أما أن يتخذ ذلك فإن فيه مجانبة للحق والصواب.

وسنرى عنه في حديثنا عن خصائصهم نماذج كثيرة من أعمالهم التي ارتكبوها مما لا تمت إلى العدل وإبطال المنكر بسبب، ولقد كان اعتقادهم الباطل بتكفير غيرهم من المسلمين سببا في استباحة دماء وأموال هؤلاء الذين قالوا إنهم خرجوا حماية لهم من ظلم الحكام، وإذا كانت لهؤلاء الحكام مظالمهم بين الناس، فما ذنب المحكومين؟!


(١) ([٨١٢١]) رواه الترمذي (٢٨٦٣)، وأحمد (٤/ ١٣٠) (١٧٢٠٩)، والحاكم (١/ ٥٨٢). من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال محمد بن إسماعيل – البخاري - الحارث الأشعري له صحبة وله غير هذا الحديث. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وحسنه ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (١/ ٨٧)، وابن حجر في ((هداية الرواة)) (٣/ ٤٦٤) – كما أشار لذلك في مقدمته-. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.
(٢) رواه مسلم (١٨٥٢).
(٣) رواه مسلم (١٨٥٤). من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(٤) رواه مسلم (١٨٥٥). من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>