للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لعب التأويل دوراً بارزاً في مفاهيم الناس، وكانت له نتائج خطيرة في حياتهم، خصوصاً تلك التأويلات المذمومة التي جرت على المسلمين محناً شتى بسبب سوء الفهم لكثير من القضايا الإسلامية، وكانت له آثاراً سيئة إذ فرق بين كلمة المسلمين وباعد بينهم وبين جوهر الشريعة وأساسها المتين.

ولقد تدرج أهل التأويل من سيئ إلى أسوأ في فهم المعاني التي يدعون معرفتها، وذلك لأنهم كلما توغلوا في تأويلٍ كلما بعدوا عن المعنى الصحيح الذي تهدف إليه النصوص، وفيما يتعلق بموقف الخوارج بين الوقوف عند ظاهر النص الشرعي وتأويله، نجد هناك أيضاً اتجاهين في تصوير موقفهم من هذه القضية:

الاتجاه الأول: القول بأنهم نصيون يقفون عند ظاهر النصوص الشرعية دون تأويل لها أو اجتهاد فيها، وهذا ما يراه أحمد أمين رحمه الله، فهو يرى أنهم يقدمون النص على التأويل؛ لأنهم كما يذكر على بساطتهم البدوية التي لا تعرف التعمق في المعاني واستخراجها، كما هي عادة أهل المعرفة، ويذكر أنهم لو عاشوا في العصر العباسي لكانوا ظاهرية تماماً. فيقول:"ومن أكبر مظاهر بساطتهم وعدم تفلسفهم أن الناظر فيما روى لنا من جدلهم ومناظراتهم يرى أنهم التزموا حرفية الكتاب والسنة ولم يتعمقوا في التأويل، فلو أنهم عاشوا في العصر العباسي لكانوا من أهل الظاهر الذين لا يقولون بقياس ويرون اتباع ظواهر النصوص من غير تأويل، وقد أدى تمسك الخوارج بظواهر النصوص إلى سخافات" (١).ويصفهم أبو زهرة بأنهم يتمسكون بظواهر الألفاظ تمسكاً شديداً غير ملتفتين إلى المعاني التي تطلب من وراء الألفاظ، وهم على غاية ما يتصور من التحمس والاندفاع إلى تأييد ما رأوه صواباً، ولو أدى ذلك إلى إزهاق أرواحهم ثمناً للدفاع عن ذلك الرأي، يصف أبو زهرة هذا الاندفاع بقوله: "وهم في دفاعهم وتهورهم مستمسكون بألفاظ قد أخذوا بظواهرها وظنوا هذه الظواهر ديناً مقدساً لا يحيد عنه مؤمن" (٢).ولهذا كانت مناظرات الإمام علي لهم في بعض المواقف ليست بالرجوع إلى النصوص؛ لأنهم سطحيون في فهمها يفسرونها بما يحبون من موافقة آرائهم، وهذا ما عناه أبو زهرة بقوله: " ولأنهم يتمسكون بظواهر الألفاظ نرى علياً عندما ناقشهم في هذا لم يجادلهم بالنصوص؛ لأنهم لا يأخذون إلا بظواهرها، بل كان يناقشهم بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم" (٣).

الاتجاه الثاني: أما الاتجاه الثاني في تصوير موقف الخوارج بين الالتزام بظاهر النص والتأويل، فيذهب أصحابه إلى القول بأن الخوارج خاضوا غمار التأويلات التي أنتجت من المآسي والحروب ما جعلهم محل بغض لدى جميع مخالفيهم.

ويرد ابن القيم رحمه الله افتراق الفرق الإسلامية إلى ثلاث وسبعين فرقة إلى بلية التأويل، ويرى أنه كان السبب في نشأة الخوارج وفي مقتل الخليفتين الراشدين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ثم أدى بالخوارج إلى تلك المعتقدات الباطلة التي اشتهرت عنهم، مثل القول بتخليد أهل الكبائر في النار، ونكرانهم شفاعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرهما من الأقوال الخاطئة، يقول ابن القيم مقرراً الأحداث التي وقعت بسبب التأويل ودور الخوارج فيه:

هذا وأصل بلية الإسلام من ... تأويل ذي التحريف والبطلان

وهو الذي فرق السبعين بل ... زادت ثلاثا قول ذي البرهان

وهو الذي قتل الخليفة جامع القر ... آن ذا النورين والإحسان

وهو الذي قتل الخليفة بعده ... أعني علياً قاتل الأقران

ويقول أيضاً:

وهو الذي أنشأ الخوارج مثل ... إنشاء أخبث الحيوان


(١) انظر: ((مختصر الصواعق)) (ص٨٤).
(٢) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (١/ ٦٦).
(٣) [٨٣٤٧])) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (ص٧٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>