للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقول النووي عن دخول الأعمال في الإيمان عند السلف: "وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق، ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تشهر، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: ١٤٣]، وأجمعوا على أن المراد صلاتكم" (٢).

وإذا كانت الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان عند السلف – كما رأينا – فإن ذلك باعتبارها شرط كمال فيه، قال ابن حجر بعد أن عرف الإيمان عند السلف بأنه "هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان"، قال: "وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص" (٣).

بينما هي عند الخوارج جزء من حقيقة الإيمان، ولهذا رتبوا عليها كفر مرتكبي الذنوب، وبناءً على اعتبار العمل شرطاً في كمال وجود الإيمان، فإن السلف لا يطلقون اسم الإيمان الكامل على أحد إلا إذا كان غير مرتكب لكبيرة، ولا يطلقون على من أخل بفريضة من فرائض الإسلام الإيمان إلا مقيداً بمعصية، فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.

قال النووي: "ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة، أو بدل فريضة؛ لأن اسم الشيء مطلقاً يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) (٤) (٤) أي كامل الإيمان.

ويذكر ابن تيمية في حق من لم يستكمل الإيمان أن التحقيق عنده فيه "أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يعطى الاسم المطلق، فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر الله به ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه، وهو لازم له كما يلزمه غيره، وإنما الكلام في اسم المدح المطلق" (٥).

ويقول السلمان في هذا الحكم: "وأما أهل السنة فقالوا: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"، وإن "من أتى كبيرة فهو عندهم مؤمن ناقص الإيمان، وبعبارة أخرى مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله" (٦).

وهكذا يتضح لنا مذهب الخوارج بصفة عامة في حقيقة الإيمان، ومشابهتهم للسلف في قولهم بدخول الأقوال والأعمال في تلك الحقيقة، وإن اختلفوا عنهم في جعل الأعمال جزءا حقيقياً من الإيمان يضيع الإيمان، بضياعه، وفيما رتبوه على ذلك من أحكام تتصل بمرتكب الكبيرة كما سنرى فيما بعد، بينما جعله السلف جزءاً مكملاً يتوقف عليه كمال الإيمان.

وإن كان لنا ملاحظة على تعبير ابن حجر، فهو اعتباره شرطا للكمال جزءاً من الحقيقة. وليس الأمر كذلك، وإلا للزمه ما رتبه الخوارج من ضياع الحقيقة بضياع جزئها، ثم إن شرط الشيء غير جزئه، لأن الشرط خارج عن الحقيقة، والجزء داخل فيها.

وإذا كنا قد ذكرنا فيما سبق إجماع كتاب المقالات على أن الخوارج يعتبرون العمل جزءاً أساسياً من الإيمان، بل لا يكون الإيمان إلا بالعمل عندهم، فإننا نجد أن الدكتور عبدالحليم محمود رحمه الله، في كتابه (التفكير الفلسفي في الإسلام) يخرج عن هذا الإجماع ويقرر بأن الخوارج لم يبحثوا مسألة الإيمان مسألة الإيمان والعمل، وذلك في قوله: "إن الخوارج باعتبارهم خوارج لا رأي لهم خاصاً بهم في مسألة الدين الأساسية من إيمان بالله، ومن بحث في صفاته، ومن دراسة في البعث" (٧).

والواقع أن الخوارج باعتبارهم خوارج كان لهم رأيهم الخاص في الإيمان وعلاقة العمل به، وهو الذي بنوا عليه موقفهم من الخلفاء خاصة والمسلمين عامة، الذين خرجوا عليهم، حيث كفرهم الخوارج واستحلوا منهم ما يستحلون من الكفار، على أساس رأيهم في دخول العمل في حقيقة الإيمان كما ذكرنا، فهو مبحث متصل بقضية الخروج نفسها، إلى جانب مبحث الإمامة العظمى، وغيرها مما يتصل بخروجهم، أو يكون من مباحث الدين، وإن لم يكن له علاقة بذلك الخروج.

المصدر:الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص٢٥٨

<<  <  ج: ص:  >  >>