للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما الفريق الثاني من الخوارج – وهم الإباضية كما قلنا – فإنهم يرون أن الإيمان يزيد وينقص، وهم بذلك يخالفون عامة الخوارج، ويتفقون في هذا القول مع مذهب السلف، ومن يذهب إليه من غيرهم من المتكلمين. يقول علي يحيى معمر الإباضي: "يرى الأشاعرة أن الإيمان يزيد وينقص، ويرى الحنفية وإمام الحرمين أنه لا يزيد ولا ينقص، ويتفق الإباضية مع الأشاعرة في هذه المقالة" (١).وقد أورد الربيع بن حبيب في مسنده الجامع الصحيح (وهو أصح كتب الحديث عند الإباضية) هذين الحديثين اللذين يدلان على أن الإيمان يتفاضل، فقال: ((وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أي المؤمن أفضل إيمانا؟ فقال: أحسنهم خلقا)) (٢)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان مائة جزء، أعظمها قول: لا إله إلا الله: وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (٣).

وسوف نرى عند دراستنا التالية لحكم مرتكب الكبيرة عند الخوارج، كيف أن الإباضية مع موافقتهم في القول بزيادة الإيمان ونقصه للسلف والأشعرين، أنهم وإن لم يحكموا على مرتكب الكبيرة بالكفر كفر ملة كبقية الخوارج إلا أنهم يخالفون السلف والأشعريين، فيحكمون عليه بالكفر كفر نعمة. ولقد كان مقتضى القول بزيادة الإيمان ونقصه أن لا يخرج مرتكب الكبيرة عن حقيقة الإيمان عند الإباضية، وهذا هو ما ذهبوا إليه فعلاً – كما ذهب إليه السلف والأشعريون، إلا أن الإباضية خالفوهم، فقالوا بالحكم عليه بلقب الكفر، وإن لم يكن كفر ملة كما قلنا، وبغض النظر عن ما يبنيه الخوارج من أحكام على ما يرونه في مسألة زيادة الإيمان ونقصه – مما سيكون موضع دراستنا وتعقيبنا قريباً – فإنه يتبين لنا مما سبق أنهم يذهبون في هذه المسألة إلى رأيين:

الرأي الأول: هو القول بعدم زيادته ونقصه، بل هو إما أن يبقى كله أو يذهب كله بذهاب بعضه، وهذا رأي عامة الخوارج.

الرأي الثاني: وهو القول بزيادة الإيمان ونقصه، وهو ما تقول به الإباضية منهم، والواقع أن الحق الذي يؤيده الكتاب والسنة، ويشهد له صحيح المعقول، وتؤكده أقوال السلف في هذه المسألة، هو القول بزيادة الإيمان ونقصه، فإن الناس يختلفون في أداء الأوامر واجتناب النواهي، وفي الرضى بما قدر الله، واليقين به تعالى، والتوكل عليه على درجات يلحظها الشخص في نفسه وفي غيره، ففي بعض الأوقات يحس الإنسان أن إيمانه وثقته بالله أقوى منها في بعض الأحيان.

وهذا هو ما دل عليه كلام الله، وكلام رسول الله، وكلام العلماء من سلف الأمة وخلفها، قال تعالى إخباراً عن المنافقين الذين في قلوبهم مرض في مساءلتهم غيرهم عند نزول الآيات: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: ١٢٤]، وقال تعالى في وصف المؤمنين عندما رأوا الأحزاب من حولهم: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: ٢٢]، وقال تعالى مبيناً حالة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حينما خوفوا من قريش وغيرهم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً [آل عمران: ١٧٣].


(١) ((الإباضية بين الفرق)) (ص ٤٤١)
(٢) رواه الطبراني في الأوسط (٤٦٧١) والحاكم (٤/ ٥٨٢) من حديث ابن عمر. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الهيثمي ((مجمع الزوائد)) (٥/ ٣٢٠): رجاله ثقات.
(٣) ((الجامع الصحيح)) (٣/ ٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>