للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والتائبون من الذنوب في مواضع الحدود المقرون على أنفسهم بارتكابها هؤلاء مشركون كفرة أيضاً؛ لأن الحدود عندهم لا تقع إلا على كافر معلوم الكفر، وبإقراره وتوبته علم كفره حينذاك، وهذا من أغرب ما يكون، أي أن نحكم على الشخص حين يعلن توبته. قال الأشعري: "وقالت البيهسية: الناس مشركون بجهل الدين، مشركون بمواقعة الذنوب، وإن كان ذنب لم يحكم الله فيه حكماً مغلظاً، ولم يوقفنا على تغليظه فهو مغفور ... وقالوا: التائب في موضع الحدود وفي موضع القصاص، والمقر على نفسه يلزمه الشرك، إذا أقر من ذلك بشيء وهو كافر؛ لأنه لا يحكم بشيء من الحدود والقصاص إلا على كل كافر يشهد عليه بالكفر عند الله" (١).ويقابل هذا التشدد منهم تساهل وتسامح مع السكارى، حتى كان السكران حين يرتكب جريمة سكر تسقط عنه جميع التكاليف الشرعية، وجميع ما يصدر عنه في تلك الحال من آثام، "وكل ما كان في السكر من ترك الصلاة، أو شتم الله سبحانه، فهو موضوع لا حد فيه، ولا حكم، ولا يكفر أهله بشيء من ذلك، ما داموا في سكرهم" (٢). إلا أن طائفة منهم تسمى العوفية تقول: "السكر كفر إذا كان معه غيره من ترك الصلاة ونحوه" (٣).وبعض البيهسية يقولون: "من واقع زنا لم نشهد عليه بالكفر حتى يرفع إلى الإمام أو الوالي ويحد" (٤). وقبل الرفع إلى الإمام أو الوالي يبقى حكمه معلقاً لا مؤمناً ولا كافراً، والبغدادي ينسب هذا الرأي لكل البيهسية، وكأن الطهارة من الآثام بالحدود لا ترفع عنه الإثم. وهذا خلاف ما عليه المسلمون، فإن وقوع الحد على المذنب وخصوصاً التائب المقر بذنبه تجعله في عداد التائبين الذين عفى الله عنهم، كما قال عليه الصلاة والسلام في حق ماعز: ((لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم)) (٥)، وفي حق الغامدية قال عليه السلام لعمر حين سأله عن الصلاة عليها: ((لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)) (٦)، وقال عليه الصلاة والسلام في بيان أن الحدود كفارة لمن وقعت عليه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا – وقرأ هذه الآية كلها: - فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)) (٧).ولا يستبعد منهم هذا التشدد والتنطع، فقد خالفوا ما قرره القرآن في بعض الأحكام، فبينما الله تعالى يقول: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: ١٨] , إذا بهم يقررون أنه إذا كفر الإمام كفرت الرعية (٨).ويجدر بنا في نهاية سياقنا لآراء الخوارج القائلين بتكفير العصاة أن نذكر أن منهم من تردد بين الحكم بتوليهم، أو التبرؤ منهم، أو التوقف في شأنهم، وهم فرقة الضحاكية من الخوارج، وهذا ما ذكره الأشعري عن هذه الفرقة بقوله: "واختلفوا في أصحاب الحدود، فمنهم من برئ منهم، ومنهم من تولاهم، ومنهم من وقف، واختلف هؤلاء في أهل دار الكفر عندهم، فمنهم من قال: هم عندنا كفار إلا من عرفنا إيمانه بعينه، ومنهم من قال: هم أهل دار خلط فلا نتولى إلا من عرفنا فيه إسلاماً، ونقف فيمن لم نعرف إسلامه، وتولى بعض هؤلاء بعضاً على اختلافهم، وقالوا: الولاية تجمعنا" (٩).

المصدر:الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص٣٣٦


(١) ((المقالات)) (١/ ٢٩٥، ((الفرق بين الفرق)) (ص١٠٩).
(٢) ((المقالات)) (١/ ١٩٥، ((الفرق بين الفرق)) (ص١٠٩).
(٣) ((الفرق بين الفرق)) (ص١٠٩، ((الملل والنحل)) (١/ ١٢٧).
(٤) ((المقالات)) (١/ ١٩٤، ((الفرق بين الفرق)) (ص١٠٩، ((الملل والنحل)) (١/ ١٢٧).
(٥) رواه مسلم (١٦٩٥).
(٦) رواه مسلم (١٦٩٦).
(٧) رواه البخاري (٦٧٨٤). وقوله وقرأ هذه الآية كلها يشير إلى الآية رقم ١٢ من سورة الممتحنة.
(٨) ((المقالات)) (١/ ١٩٤)، ((الفرق بين الفرق)) (ص١٠٩)، ((الملل والنحل)) (١/ ١٢٦).
(٩) ((مقالات الإسلاميين)) (١/ ١٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>