للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كذلك فإن المعروف بداهة أن من استحق العذاب لا يستحق الثواب، ومن استحق الإحسان لا يستحق الإساءة وإلا لزم الجمع بين النقيضين، وعلى هذا فإن الناس في الدار الآخرة ينقسمون إلى قسمين: شقي وسعيد. فمن استحق الشقاء لا يستحق السعادة، ومن استحق السعادة لا يستحق الشقاء - قال تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: ١٠٦ - ١٠٨]، وكذا قوله تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: ٧]. إلى غير هذه الآيات التي في هذا السياق. وبهذه النظرة الضيقة "يكونون غير مراعين لآيات الرحمة والعفو، لأن الرحمة كما يقال فوق العدل، ومذهبهم هذا يؤدي إلى شيء من اليأس في ظاهر الأمر ولكنهم يقولون إن من تاب فقد نجا" (١). وبهذا يفتحون للمذنب طريقا إلى الرحمة وأملا ضعيفا إلا أنه طريق محفوف بالمخاطر فأقل زلة قد تجعله من أهل النار. والإباضية في ذلك كبقية الخوارج يرون أن الله لا يخلف وعده ولا يبطل وعيده، كما قال صاحب كتاب (الأديان) الإباضي: "ومن اعتقاد أهل الاستقامة أن الله لا يخلف وعده ولا يبطل وعيده" (٢). ويقول علي معمر أيضا في هذه المسألة: "كما لا يجوز خلف الوعد كذلك لا يجوز خلف الوعيد" (٣). فهم مجمعون على أن الله لا يخلف وعده ولا وعيده، كما قال تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [ق: ٢٩].

وهذا هو استدلالهم من القرآن. واستدلوا من الشعر العربي ببيت لأحد الشعراء وهو قوله:

قوم إذا وعدوا أو أوعدوا عمروا ... صدق الرواية ما قالوا بما فعلوا

وهذا ما يعبر عنه الجناوني في قوله: "وأما الوعد والوعيد فقد اتفق الموحدون كلهم على أن الله صادق في وعده ووعيده" (٤). ثم استدل بالآية السابقة وبقول الشاعر المتقدم. ويرد أبو إسحاق أطفيش على القائلين بتخلف وعد الله بأن هذا القول والقول بالبداء على الله واحد لا فرق بينهما، فقال: "والحق أنه لا دليل على تخلف وعد الله بل هو من القول بالبداء على الله" (٥). ويقول النفوسي منهم مثبتا اعتقادهم في هذا الباب:

ودنا بإنفاذ الوعيد وحكمه ... وتخليد أهل النار في النار والهون (٦)

وفيما يتعلق بوجوب الوعد والوعيد فإن أهل السنة يقولون إن إخلاف الوعد مذموم، وذلك غير إخلاف الوعيد فهو كرم وتجاوز كما يفعل أهل الشرف بعبيدهم حين يتوعدونهم ثم يعفون عنهم ويخلفون ما توعدوهم به من العقاب؛ ولهذا فقد "قال أهل السنة: وإخلاف الوعيد كرم ويمدح به بخلاف الوعد" (٧).

وقد أجاب أبو عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد القدري حين قال له ابن عبيد: "وقد ورد من الله تعالى الوعد والوعيد والله تعالى يصدق وعده ووعيده" قال البغدادي: "فأراد بهذا الكلام أن ينصر بدعته التي ابتدعها في أن العصاة من المؤمنين خالدون مخلدون في النار" - أجاب أبو عمرو بن العلاء عن قول ابن عبيد بقوله: "فأين أنت من قول العرب: إن الكريم إذا أوعد عفا وإذا وعد وفى، وافتخار قائلهم بالعفو عند الوعيد حيث قال:


(١) ((آراء الخوارج)) (ص١٤٦).
(٢) من ((كتاب ((الأديان)) والفرق (ص٥٥).
(٣) ((الإباضية بين الفرق)) (ص٤٤٠).
(٤) كتاب ((الوضع)) للجناوني.
(٥) كتاب ((الوضع)) للجناوني.
(٦) كتاب ((متن النونية)) في عقيدة التوحيد (ص١٨).
(٧) ((الأسئلة والأجوبة على الواسطية)) (ص٨٤)

<<  <  ج: ص:  >  >>