للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢ - أن الآية واردة على سبيل التبعيض بمن أي أن بعضكم كافر وبعضكم مؤمن، وهذا لا شك في وقوعه إلا أن أهل الكبائر لم يذكروا هنا كما يدعي الخوارج. يقول جعفر بن أحمد: "وهذا لا يمنع من أن يكون بعض منهم فاسقا، ألا تر أنه لو ذكره عقب قوله: وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ لم يكن مناقضا في الكلام. ولو كان تخصيصه لمن ذكره يدل على نفي من عداه لكان متى ذكر الفاسق مناقضا، وهذا مما لا شك في فساده" (١).ويقول الملطي في بيان احتجاجهم بالآية مع قوله تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة: ٥] وقوله: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: ٣]، وما رد من أمثال هذه الآيات إنهم يقولون: "لم يجعل الله بين الكفر والإيمان منزلة ثالثة، ومن كفر وحبط عمله فهو مشرك والإيمان رأس الأعمال وأول الفرائض في عمل، ومن ترك ما أمره الله به فقد حبط عمله وإيمانه ومن حبط عمله فهو بلا إيمان والذي لا إيمان له مشرك كافر" (٢).وقد رد عليهم الملطي بأن الفاسق له منزلة بين الإيمان والكفر، واستدل بآية القذف وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: ٤]، ثم قال: "فهم فساق لا مؤمنون ولا كافرون - وهو رأي المعتزلة - كما قال الله عز وجل وأجمعت عليه الأمة، مجمعة على اسم الفسق لأهل الكبائر" (٣).

ونود هنا أن ننبه إلى أننا إذا كنا قد رددنا على احتجاج الخوارج بالآيات السابقة بأنها لا تمنع وجود قسم ثالث وهم الفاسقون؛ فنحن لا نقول بقول من نقلنا عنهم في رد الاحتجاج بهذه الآيات بأن هؤلاء الفاسقين في منزلة بين المنزلتين؛ منزلتي الإيمان والكفر، فذلك أصل المعتزلة لا نقول به، وإنما نقول بأن هؤلاء الفاسقين فريق غير كاملي الإيمان، فهم كفار وغير كاملي الإيمان، بل يقال لأحدهم: إنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأنهم من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.

٧ - ومما استدلوا به على تكفير مرتكبي الكبائر أن تارك الحج - وهو مرتكب للكبيرة بتركه الحج - وقد سماه الله كافرا فقال تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: ٩٧].

ووجه استدلالهم بهذه الآية أنهم قالوا إن الله تعالى قد نص على أن تارك الحج كافر، وهذا الاستدلال لا يسلم لهم وذلك لأن الآية مجملة فيها احتمال أنه يريد تارك الحج، وفيها احتمال أنه يريد تارك اعتقاد وجوبه لأن الله تعالى لم يذكر الترك، فلم يقل: "ولله على الناس حج البيت ومن تركه فقد كفر"، وإنما بين أن الحج واجب على المستطيع، ثم أثبت أن من كفر بالله فالله غني عنه. أويكون المراد به ترك الحج مستحلا لتركه فهو كافر وهذا لا شك في كفره. وهذا ما أجاب به كثير من العلماء عن هذه الشبهة من شبه الخوارج في تكفير أهل الذنوب. يقول جعفر بن أحمد: "هذه الآية لا تدل على ما راموه لأنه لا ذكر فيها لترك الحج ولا لذكر تاركه، وإنما ذكر الله تعالى فيها أن من كفر فإن الله غني عنه وبين فيها وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلاً، فإن أوجبوا تعليق آخر الآية بأولها ودأبوا على ذلك لم يضرنا تسليمه، فإن المذكور في أول الآية هو وجوب الحج لأن لفظة "على" موضوعة للإيجاب، ولا شك أن من لم يعترف بوجوب الحج ولم يقر بلزومه فهو كافر، وهذه ليست حال الفاسق، فإن الخلاف واقع بيننا وبينهم في فاسق أقر بوجوب الحج ولم يفعله. وليس في هذا ذكر حكم هذا" (٤).وقد أجاب الطبري عن معنى الآية بقوله: "يعني بذلك جل ثناؤه: ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حج بيته فأنكره وكفر به؛ فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله وعن سائر خلقه من الجن والإنس". وقد ذكر أقوالا أخرى إلا أن هذا القول هو أجمعها (٥).

ويقول الأستاذ أبو زهرة في الرد على الخوارج في استدلالهم بهذه الآية: "وآية الحج ليس الكفر وصفا لمن لم يحج، إنما الكفر فيها لمن أنكر فريضة الحج".وقال في تفنيد تلك الأدلة التي استدل بها الخوارج: "وكل هذه الدلائل تمسك بظواهر النصوص، وأكثرها كان الحديث فيه عن مشركي مكة فهي أوصاف لهم" (٦).


(١) ((إبانة المناهج)) (ص١٦٥، و ((شرح نهج البلاغة)) (٨/ ١١٨).
(٢) ((التنبيه والرد)) (ص٥٢).
(٣) ((التنبيه والرد)) (ص٥٣).
(٤) انظر: ((إبانة المناهج)) (ص١٦٦، ((شرح الأصول الخمسة)) (ص٧٢٢، ((شرح نهج البلاغة)) (٨/ ١١٤).
(٥) ((جامع البيان)) (٤/ ١٩).
(٦) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (١/ ٧٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>