للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقد خاطب الله الناس بوجوب القصاص واصفا لهم جميعاً بالإيمان بما فيهم القتلة، وقد نص تعالى في هذه الآية على أن القاتل الذي وجب عليه القصاص وولي المقتول أخوان، وقد سمى المتقاتلين مؤمنين بقوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:٩]، وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:١٠].٣ - واستدلوا أيضاً بحديث عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (١).

يطلق الفسق في الشرع على الخروج عن الطاعة. والسباب من الأمور القبيحة وأقبح ما يكون إذا كان بغير حق فإنه "حرام بإجماع الأمة وفاعله فاسق كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم".

قال النووي: "وأما قتاله بغير حق فلا يكفر به عند أهل الحق كفرا يخرج به من الملة كما قدمناه في مواضع كثيرة إلا إذا استحله، فإذا تقرر هذا فقيل في تأويل هذا الحديث أقوال:

أ- أنه في المستحل.

ب- أن المراد كفر الإحسان والنعمة وأخوة الإسلام لا كفر الجحود.

ج- أنه يؤول إلى الكفر بشؤمه.

د- أنه كفعل الكفار.٤ - واستدل الخوارج بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرىء قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه)) (٢)، وما ورد في معناه من أحاديث، مذهب السلف أهل الحق أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي والسباب نوع من أنواع المعاصي، ولهذا فقد ذكر النووي رحمه الله أن "هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات من حيث أن ظاهره غير مراد". ثم ذكر أوجهاً لتأويله وهي:

١ - أن يكون الحديث وارداً في حق من استحل تكفير أخاه المسلم معتقداً ذلك.

٢ - أن يكون المراد رجوع معصية تكفيره ونقيصته عليه هو.٣ - التحذير من أن يسترسل الشخص في مثل هذا القول فيؤول به إلى الكفر؛ لأن المعاصي كما قيل بريد الكفر (٣).٤ - واستدل الخوارج على تكفير مرتكبي الكبائر بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)) (٤).

قال النووي: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم فهو في نار جهنم خالدا مخلداً فيها أبداً فقيل فيه أقوال:

١ - أنه محمول على من فعل ذلك مستحلا مع علمه بالتحريم، فهذا كافر وهذه عقوبتهم.

٢ - أن المراد بالخلود طول المدة والإقامة المتطاولة لا حقيقة الدوام كما يقال: خلد الله ملك السلطان.٣ - أن هذه جزاؤه ولكن تكرم سبحانه وتعالى فأخبر أنه لا يخلد في النار من مات مسلماً" (٥).وأهل السنة على أن قاتل نفسه ليس بكافر كما في حديث جابر رضي الله عنه: ((أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة، قال: حصن كان لدوس في الجاهلية، فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار". فلما هاجر النبي عليه السلام إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه (٦)، فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه فرآه وهيئته حسنه ورآه مغطياً يديه، فقال له: ما صنع بك ربك فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه عليه السلام. فقال: ما لي أراك مغطياً يديك، قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم وليديه فاغفر)) (٧).قال النووي: إن في الحديث "حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة"، قال: "وهذا الحديث شرح للأحاديث التي قبله الموهم ظاهرها تخليد قاتل النفس وغيره من أصحاب الكبائر" (٨).

المصدر:الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص٣٦٣


(١) رواه البخاري (٤٨)، ومسلم (٦٤).
(٢) رواه البخاري (٦١٠٤)، ومسلم (٦٠). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(٣) ((شرح النووي)) (٢/ ٥٠).
(٤) رواه البخاري (٥٧٨٧)، ومسلم (١٠٩).
(٥) ((شرح النووي)) (٢/ ١٢٥).
(٦) البراجم: مفاصل الأصابع.
(٧) رواه مسلم (١١٦).
(٨) ((شرح النووي)) (٢/ ١٣٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>