للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولعل أكثر الخوارج اعتدالا تجاه مخالفيهم وأكثر تسامحا معهم والشخصية المثالية لدى الخوارج بل والشيعة أيضا هو أبو بلال مرداس بن أدية، فقد كان معتدلا زاهدا مجتهدا في العبادة معظما عند كل الخوارج، وكان مسالما، فعندما خرج بأصحابه فارا بدينه من أحكام الظلمة – يعني حكام بني أمية – لقيه أحد أصدقائه فأشار عليه بعدم الخروج خوفا عليه من بطش زياد، فطمأنه بأنه سوف لا يخيف آمنا ولا يجرد سيفا إلا على من قاتله. وكان مما أثار هيجانه وجعله يخرج أن زيادا ذات يوم خطب على المنبر وكان مرداس يسمعه، فكان من قوله: "والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء، والحاضر منكم بالغائب، والصحيح بالسقيم". وهذا بالطبع ما لا تحتمله الخوارج، إذ يعلن جوره في أحكامه علانية غير مبال بالخوف من الله أو على الأقل من فتنة الناس، فثارت ثائرة مرداس "فقام إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان، وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام إذ يقول: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى [النجم: ٣٧ - ٤١] وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي، ثم خرج عقب هذا اليوم" (١).ويثبت المبرد هنا أن المعتزلة والشيعة تنتحله، وأنه حينما أراد الخروج بعدما عيل صبره وانتهى أمله في صلاح حكامه – قال: "والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظلمة تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للفصل، والله إن الصبر على هذا لعظيم وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكننا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفا ولا نقاتل إلا من قاتلنا" (٢).


(١) ((الكامل)) للمبرد (٢/ ١٣٦).
(٢) ((الكامل)) للمبرد (٢/ ١٥٥، ١٥٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>