للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهو يرى أنه بين خيارين: إما أن يستكين لظلم الولاة وهذا عظيم أو يجرد السيف في وجوههم وهذا عظيم أيضا لما يترتب عليه من سفك الدماء، ولكنه أراد حلا وسطا وهو الهرب بدينه وعدم تجريد السيف، ولكن هذا الحل لا يمكن أن يقبله الحكام الأمويون بالبداهة. ومن المعتدلين من الخوارج أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي، ولكنه اعتدال غير كامل، فقد أحل المقام بين مخالفيه وجوز مناكحتهم وموارثتهم ولكنه اعتبرهم في الأحكام الدنيوية منافقين يظهرون الإسلام ويخفون النفاق، وأما حكمهم عند الله، فقد زعم بأنه حكم المشركين (١).وكذلك صالح بن مسرح، فقد كان يرى أنه يجب دعوة مخالفيه قبل قتالهم؛ لأنه أقطع للعذر وأبلغ في الحجة عليهم، بينما كان شبيب وهو الزعيم الثاني بعد صالح يحبذه على القول بالفتك بمخالفيهم قبل الدعوة، فحينما اجتمع شبيب بصالح بعد المكاتبة بينهما واتفاقهما على الخروج – يروي بنفسه ما جرى بينه وبين صالح بن مسرح فيقول: "لما هممنا بالخروج، اجتمعنا إلى صالح بن مسرح ليلة خرج، فكان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المنكر والعدوان والفساد في الأرض، فقمت إليه فقلت يا أمير المؤمنين: كيف ترى في السيرة في هؤلاء الظلمة؛ أنقتلهم قبل الدعاء أو ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني فيهم برأيك، أما أنا فأر أن نقتل كل من لا يرى رأينا قريبا كان أو بعيدا، فإنا نخرج على قوم غاوين طاغين باغين قد تركوا أمر الله واستحوذ عليهم الشيطان، فقال: لا بل ندعوهم، فلعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك وليقاتلنك من يرزي عليك والدعاء أقطع لحجتهم وأبلغ في الحجة عليهم، قال: فقلت له: فكيف تر فيمن قاتلنا فظفرنا به؟ ما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال: إن قتلنا وغنمنا فلنا وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا ولنا. قال: فأحسن القول وأصاب رحمة الله عليه وعلينا" (٢).

فهذه المحاورة الفقهية السياسية في شأن مخالفيهم تعلقت بأمور هي: هل عليهم دعوة مخالفيهم قبل القتال أو لا؟ وهل الأسرى يجب قتلهم أو استبقاؤهم؟ ثم الحكم في الأموال ثم الغنائم، وهكذا. وهذا يفيد أنهم نوعا ما كانوا أخف وطأة من الأزارقة وإن كانوا قد عقدوا العزم على قتال مخالفيهم أو يذعنوا لطاعتهم؛ لأنهم في نظرهم خارجون عن تطبيق الإسلام الصحيح، فيجب أن توضع الحلول لتلك المسائل التي تعلقت بمخالفيهم، ولهذا فقد أنكر صالح على نافع بن الأزرق غلوه وعلى ابن إباض في تقصيره في الحكم على مخالفيهم، فقال لابن إباض: "برئ الله منك فقد قصرت، وبرئ من ابن الأزرق فقد غلا" (٣).

ونحب أن نذكر هنا موقف الإباضية من مخالفيهم، سواء ما قاله علماء الفرق أو ما قالوه هم عن أنفسهم، لنرى مدى التقارب أو التباعد بينهم وبين غيرهم من فرق الخوارج في هذه المسألة.

والواقع أن حكم الإباضية في مخالفيهم قد تميز بنوع من الاعتدال وحب التقارب مع غيرهم، فهم لا يحكمون عليهم بالشرك، وإن كانوا لا يعتبرونهم كاملي الإسلام بل هم كفار.


(١) انظر: ((العقد الفريد)) (١/ ٢٢٣).
(٢) ((تاريخ الطبري)) (٦/ ٢١٩).
(٣) ((الكامل)) لابن الأثير (٤/ ١٦٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>